استمع إلى الملخص
- خلال حرب فيتنام، استخدم السجن لاحتجاز الطيارين الأميركيين الأسرى، مثل جون ماكين، وشهد صمود الشعب الفيتنامي ضد القصف الأميركي، مما أعاد للأذهان انتصار "ديان بيان فو".
- في التسعينيات، حُوّل جزء من السجن إلى متحف يعرض قصص المعاناة والصمود، ليصبح رمزاً لنضال الفيتناميين من أجل الحرية.
يعكس سجن هانوي فصولاً من القمع والمعاناة والصمود رغم قهر الاستعمار الفرنسي، هو الذي تأسس عام 1896 لاحتجاز السجناء السياسيين الذين قاوموا الاحتلال
من داخل جدران سجن هانوي، المعروف باسم "سجن هوا لو" التاريخي في قلب العاصمة الفيتنامية هانوي، تشهد أروقة المكان على القمع والمعاناة، حيث تقف المعروضات لتروي رغم صمتها، قصصاً حية عن صمود شعب قهر الاستعمار. مع كل خطوة في الزنازين الضيقة، تطرح أسئلة عن مدى وحشية الإنسان، فوجدت نفسي في مواجهة مع تاريخ لم أعرف عنه سوى من خلال أفلام هوليوود.
تأسس السجن عام 1896 خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، لاحتجاز السجناء السياسيين الذين قاوموا الاحتلال. وتقبع في جنباته تماثيل السجناء المقيدة أقدامهم بسلاسل حديدية، والتي تثبت أنّه على الرغم من تصميمه لاستيعاب 450 شخصاً فقط، ضمّ السجن الآلاف منهم في زنازين مكتظة لا تتوفر فيها أبسط مقومات الحياة. وعانوا من ظروف معيشية قاسية للغاية، حيث تكدّسوا في غرف تفتقر إلى التهوئة والمياه النظيفة، وأجبروا على نظام غذائي سيء يقتصر على الأرز المتعفّن والخضار الفاسدة. أما أدوات التعذيب، مثل الأغلال الثقيلة والمقصلة، فهي لا تزال تجسّد الوجه الوحشي والمظلم لهذا السجن.
في المقابل ورغم القمع، أظهر السجناء شجاعة استثنائية، ونظّموا داخل الزنازين دروساً سياسية وثقافية لتقوية الروح المعنوية، وهو ما أمدّهم بالأمل وجعل من السجن رمزاً للمقاومة والنضال من أجل الحرية. وواجهت النساء المعاناة نفسها وظروفاً مروّعة، وخُصص لهن جناح صغير، لكنهن استثمرن وقتهن في تعزيز الوعي، وتنظيم الأنشطة الثورية أيضاً.
وتروي الملصقات وأجزاء الصحف عن فترة حرب فيتنام في الستينيات وأوائل السبعينيات، خاصة بعد تصاعد الحرب في عام 1964 مع بدء القصف الأميركي على شمال فيتنام (عملية الرعد المتدحرج) حين تغيرت طبيعة استخدام السجن، وتحول إلى مركز لاحتجاز الطيارين الأميركيين الذين أُسروا خلال الحرب. وكان أبرزهم السيناتور الأميركي الراحل جون ماكين، الذي أُسر في عام 1967 بعد إسقاط طائرته أثناء مهمة قصف في هانوي، وقضى أكثر من خمس سنوات سجين حرب. ومن منطلق السخرية، أطلق الأسرى على السجن اسم "هانوي هيلتون". ورغم اختلاف الروايات حول طبيعة المعاملة التي تلقاها الأسرى، يبقى السجن شاهداً على جزء بسيط مما جرى بين جدرانه خلال الحرب.
تتناثر صفحات الجرائد على الجدران لتخبرنا أيضاً بأنّه خلال ديسمبر/ كانون الأول 1972، تعرّضت هانوي لحملة قصف أميركية مكثفة عُرفت باسم "لاينباكر 2" (Linebacker II)، وغالباً ما يُطلق عليها أيضاً اسم "حملة عيد الميلاد" بسبب توقيتها في موسم الأعياد. وحاولت الولايات المتحدة حينها تدمير البنية التحتية للمدينة باستخدام قاذفات بي 52، لكن الشعب الفيتنامي أبدى صموداً مذهلاً، واعتُبرت هذه الحملة بمثابة إعادة للأذهان لانتصار "ديان بيان فو" ضد الاستعمار الفرنسي. وهذا اسم معركة حاسمة حدثت في الفترة ما بين 13 مارس/ آذار و7 مايو/ أيار 1954 في ديان بيان فو، وهي منطقة نائية في شمال غرب فيتنام. كانت المعركة تهدف إلى سحق المقاومة الفيتنامية، واستعادة السيطرة الفرنسية على المنطقة، لكن النتيجة كانت عكسية.
وتمكّنت القوات الفيتنامية، بقيادة الجنرال فوتين، من محاصرة القاعدة الفرنسية في ديان بيان فو، ما أدى إلى انتصار حاسم. كانت هذه المعركة نقطة تحول في حرب الهند الصينية، حيث أسفرت عن انسحاب فرنسا من فيتنام. وتستمر قصص السجن في التبلور حتى بعدما انتهت فترات القتال الكبرى، ويخبرنا السجن عمّا ورد في مذكرات السجين السياسي نغوين هوو ثوي. يروي ثوي كيف عاش السجناء حالة من الترقب والخوف حول مصيرهم المجهول حيث اعتقدوا أن الفرنسيين قد يقرّرون إعدامهم أو نقلهم إلى أماكن أخرى في الجنوب. بيد أنّهم حاولوا التشبث بالأمل، وبادروا إلى جمع قائمة بأسماء الذين لم يُطلق سراحهم بعد، وأرسلوها إلى الحلفاء والممثلين العسكريين. وكانت النتيجة مذهلة، وأطلق سراح السجناء السياسيين بفضل نضال الشعب وأعضاء الحزب في هانوي، إلى جانب جهود السجناء أنفسهم التي لم تتوقف رغم قسوة الظروف.
وفي تسعينيات القرن الماضي، هُدم معظم مباني السجن، لكن السلطات أبقت على جزء صغير منه وحولته إلى متحف. يعرض المتحف اليوم العديد من الزنازين وأدوات التعذيب التي استخدمت ضد السجناء، إلى جانب مقتنياتهم الشخصية مثل الرسائل والصور. ومن بين المعروضات البارزة، ركن مخصص للسيناتور جون ماكين، يتضمن بدلة الطيران الخاصة به وصوره خلال فترة أسره.
بالإضافة إلى المعروضات، تحمل الهندسة المعمارية المتبقية للسجن قصصاً عن المعاناة والصمود، حيث يعكس تصميم الزنازين والمقصلة واقعاً مريراً عاشه السجناء. ورغم ذلك، ظهرت ملامح الأمل داخل هذا الجحيم، إذ استغل السجناء أبسط الموارد للمقاومة، مثل إخفاء الوثائق الثورية في أماكن غير متوقعة كالمراحيض، بل وتمكن البعض من تربية الدجاج للحصول على مصدر غذائي نادر.
واليوم، يقف متحف سجن هوا لو رمزاً للقهر والوجع والعزيمة والصبر، ويُذكّر الزوار بنضال الفيتناميين من أجل الحرية. ويدفعنا إلى التأمل في قوة الإنسان على التحمّل على مقاومة الظلم، ليتحول من مجرد سجن يسرد وقائع الماضي، إلى تجربة إنسانية عميقة تأخذنا في رحلة زمنية قريبة تعكس تشابه الحروب وأوجه الاستعمار في كل زمان ومكان.