أنشأت السلطات الليبية، في الغرب والشرق، على مدار السنوات الماضية، أجهزة وهيئات عدة معنية بمخلفات الحرب، لمتابعة آثارها، خصوصاً في الجانب الإنساني، منها هيئات البحث عن المفقودين، وعلاج جرحى الحرب والمبتورين، لكنّ أيّاً منها لم يلتفت إلى المصابين بالألغام والمفخخات من المدنيين، علماً أنّ تلك الأجسام المتفجرة ما زالت تنتشر بشكل واسع في الأحياء الجنوبية للعاصمة طرابلس، التي طاولتها الحرب، حتى منتصف 2020.
وتهتم اللجنة العسكرية المشتركة المؤلفة من ضباط من طرفي الصراع في ليبيا (حكومة الوفاق، وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر)، بحصر حقول الألغام المنتشرة حول مدينة سرت، كونها ميدان عمل اللجنة لفض الاشتباك وإبعاد المتقاتلين، تمهيداً لفتح الطريق الساحلي الرابط بين المنطقتين الشرقية والغربية للبلاد. وبينما لم تنتهِ اللجنة حتى الآن من عملياتها، يقدّر عبد المنعم بريك، عضو رابطة ضحايا الألغام في جنوب طرابلس، كمية المخلفات في تلك المنطقة بـ30 طناً.
من جهته، أصيب الطفل وسيم الشماح بشظايا لغم أرضي انفجر أثناء عودة أسرته إلى منزلها في حيّ القبايلية، جنوبي طرابلس، فأدت إلى إعاقة بصرية لديه، فيما يسعى والده لعلاجه في مصحات خاصة. يقول والد وسيم لـ"العربي الجديد"، إنّ اللغم انفجر قرب سيارته التي أقلّ بها أسرته، بعد زيارة تفقدية لمنزله. يضيف: "فرحة العودة بعد أكثر من عام من النزوح، أربكت حسابات أغلب العائدين، فلم ننتبه في الأيام الأولى للمفخخات والألغام المنتشرة بكثرة". يتابع: "إصابة ابني كانت بسبب الشظايا التي ارتطمت بزجاج السيارة أثناء انفجار اللغم". ويكمل الوالد: "أكد الطبيب بعد إسعافه أنّ إصابته بالغة، وأنّ المرجح أن يتابع حياته بعين واحدة، إلّا في حال علاجه بإحدى الدول المتقدمة طبياً". وضاعت كلّ محاولات والد وسيم للتواصل مع وزارة الصحة، ويوضح: "طرقت أبواب وزارات غيرها أيضاً، فيما دعم أهل الخير لم يكن كافياً إلا للعلاج في دولة مجاورة، لكنّ الأطباء هناك أكدوا أنّ علاج طفلي يجب أن يكون في ألمانيا وكلفته كبيرة".
إثر انتهاء الحرب وانسحاب المقاتلين من جنوب طرابلس، نشر ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي صوراً لأشكال الألغام والمفخخات التي وضعت بطريقة لا علاقة لها بالمعارك، إذ كانت داخل المنازل وبين الأزقة الضيقة، وهو ما يؤكده بريك، في حديثه إلى "العربي الجديد". يتابع أنّه شاهد طرق التفخيخ التي لا تشير إلا إلى رغبة مبيتة في استهداف المدنيين. ومن صور الإهمال الحكومي، يشير بريك إلى توظيف القضية من إنسانية إلى سياسية، ويقول: "البيانات والاستنكارات عادة ما كنت تحتوي على أخبار متوفين أو مصابين، من جراء الألغام، لتوظيفها سياسياً في الصراع، لكنّ الجهات الحكومية كلّها لم تمدّ يد المساعدة لضحايا الألغام".
من جهته، لا يطلب ونيس الرمالي مقاضاة من كان سبباً في خسارة ساقه، لكنّه يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "مطلبي هو توفير إمكانية وصولي إلى دولة قادرة على تركيب طرف صناعي لي". يضيف: "خسرت ساقي بلغم أرضي كان مزروعاً بالقرب من سكني في حيّ السيدة فاطمة، جنوبي طرابلس، وعلى الرغم من تعطلي عن العمل، اضطررت للعودة إليه على عكازين، إذ إنّني ربّ أسرة". يلفت الرمالي إلى أنّه طالب الجهات الحكومية بضمه إلى قوائم جرحى القتال، مبيناً أنّ المصابين وجرحى الحرب من المسلحين يوفدون إلى الخارج لتلقي العلاج، ومنه توفير الأطراف الصناعية لهم، لكنّ مطلبه بقي من دون موافقة أو تجاوب حتى.
في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، أعلنت فرق الهندسة العسكرية التابعة للجنة العسكرية المشتركة عن تفجير 10 أطنان من الألغام التي كانت مزروعة بين المناطق السكنية وداخلها، كانت قد جمعتها من أحياء صلاح الدين وعين زارة والمشروع ووادي ربيع، جنوبي العاصمة. وفي مطلع فبراير/ شباط الماضي، أعلن المركز الليبي لإزالة الألغام ومخلفات الحروب، التابع لحكومة الوفاق، عن تفجير 7 أطنان من مخلفات الحرب، مشيراً إلى أنّها الدفعة الثانية. وأوضح المركز أنّه قام بالتنسيق مع جهاز المباحث الجنائية بـ"التخلص من كمية من مخلفات الحروب والألغام التي جرى جمعها أخيراً من جنوب طرابلس". وبلغ حجم الكمية التي جرى التخلص منها نحو 7 أطنان، من إجمالي 20 طناً جرى جمعها. وأشار إلى أنّ عمليات التخلص من إجمالي الكمية ستتم على دفعات.
لكن بريك يتساءل: "ماذا عن بقية الأحياء؟ فرق الهندسة تشتكي من إمكاناتها الضعيفة، وبالفعل فإنّ طريقة زرع الألغام كانت احترافية، وهو ما يستوجب تعزيز قدرات فرق الهندسة على إزالتها والتعامل معها"، مؤكداً أنّ مساحات من الأحياء السكنية ما زالت مقفلة حتى الآن، لاحتوائها على مفخخات.