تعاني ليبيا من فوضى في الإدارة والسياسات الحكومية من جرّاء الانقسامات التي شهدتها البلاد والحرب والنزوح، ومن تبعات الفوضى والأزمات المتتالية اتّساع دائرة البطالة المقنّعة لتشمل أساتذة الجامعات الذين تمتلئ بهم مؤسسات التعليم العالي الليبية. وبينما تزايدت القرارات الخاصة بإنشاء جامعات حكومية في الأعوام الأخيرة، فإنّ الجامعات الخاصة وكذلك المعاهد تُعَدّ الملجأ لخرّيجي أقسام الدراسات العليا في الجامعات الليبية أو لحاملي الشهادات العليا من المبتعثين للدراسة في الخارج. هذا ما يشير إليه عبد الباسط أبو خريص من مدينة غريان غربي البلاد، وهو حامل شهادة دكتوراه في الجغرافيا الطبيعية من جامعة الزيتونة بتونس في عام 2019.
يقول أبو خريص لـ"العربي الجديد": "حصلت على عقد توظيف حكومي في إحدى كليات جامعة الجفارة التي تبعد عن منطقتي نحو 200 كيلومتر، في العام الماضي، إلا أنّني لم أتمكّن من الحصول على أيّ حصة في جدول محاضرات الكلية بسبب كفايته من الأساتذة". وما يشكو منه أبو خريص ليس حالة استثنائية، بل هو ظاهرة تشهدها الجامعات بمعظمها التي تقدم إداراتها على توقيع عقود لأساتذة جدد من دون الرجوع إلى وزارة التعليم، لا سيّما في سنوات الانقسام الحكومي. ويشير أبو خريص إلى أنّ "وزارة التعليم العالي الحالية تعاني من تراكم ديون الأساتذة الجدد ومن عجز في إعادة جدولتهم من ضمن الملاكات الوظيفية للجامعات". وهذا ما تؤكده المسؤولة في إدارة الموارد البشرية في الوزارة زهرة رمضان. وعلى الرغم من مخاطبة الوزارة الجامعات في ما يتعلق بعدم توقيع عقود جديدة، فإنّ رمضان توضح أنّ "المراسلات الجامعية تشير إلى الاستمرار فيها بتواريخ رجعية، وسط اتّساع مشكلات فوضى الإدارة الجامعية".
وفي ليبيا 32 جامعة حكومية، بحسب الموقع الرسمي للمركز الوطني لضمان الجودة الحكومي، بالإضافة إلى ثمانى جامعات خاصة. وتوضح رمضان هنا أنّ الجامعات الخاصة المشار إليها هي "الجامعات المعتمدة من قبل مركز ضمان الجودة، في حين ثمّة عشرات غيرها من الجامعات والمعاهد الخاصة، إلى جانب عشرات المقترحات المقدّمة من بلديات عدّة في مختلف أنحاء البلاد لإنشاء جامعات حكومية جديدة لأسباب مختلفة". تضيف رمضان أنّ "المقترح يُضمَّن عادة قوائم بأسماء أساتذة لفرض قبوله، والداعي الرئيسي لطلب إنشاء جامعات جديدة هو بعد المسافة بالنسبة إلى سكان منطقة معيّنة عن أقرب جامعة في منطقة مجاورة". وتتابع رمضان أنّ "استمرار تداخل الصلاحيات ما بين البلديات التابعة لوزارة الحكم المحلي والجامعات التابعة لوزارة التعليم العالي ما زال يفاقم الأزمة".
ولا تملك وزارة التعليم العالي إحصاءً رسمياً بعدد الأساتذة المعيّنين بعقود وظيفية رسمية والذين يتلقون رواتب أساسية من الجامعات من دون أن تسنح لهم فرصة للانضمام إلى جداول المحاضرات، لكنّهم يُقدَّرون بنحو ألف أستاذ. لكنّ الأستاذ الجامعي سالم شادي يلفت بحديث لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "الرقم أكبر من ذلك، فالجامعات بمعظمها تتضمّن أقساماً للدراسات العليا تخرّج حاملي شهادات ماجستير ودكتوراه، وتُضاف إليها الأكاديمية الليبية المتخصصة في تخريج حاملي تلك الشهادات". ويؤكد شادي أنّ الأعداد التي تتخرّج من أقسام الدراسات العليا سنوياً كبيرة ولا تتناسب مع سوق العمل. ويخبر شادي أنّه يتردد منذ أكثر من عامَين على جامعته في مدينة الزاوية شمال غربي ليبيا التي انضمّ إليها بعقد وظيفي، من دون أن يتمكّن من الحصول على حصة في الجدول الرسمي لمحاضرات قسم المحاسبة. ويلفت شادي إلى أنّ "قاعة الأساتذة صارت بمثابة قاعة للتعارف بين هؤلاء وتشارك شكاويهم والتعرّف إلى قصص معاناتهم عند تنقّلهم بين الجامعات سعياً إلى الحصول على عقد وظيفي".
ويتقاضى أبو خريص وشادي رواتب أساسية لقاء عقديهما الوظيفيَّين، لكنّ حجم الرواتب الضئيل اضطرّهم إلى اللجوء الى القطاع الخاصة والتدريس في جامعاته ومعاهده التي يُقبل عليها الطلاب لسهولة الدراسة فيها. لكن أبو خريص يتحفّظ على جدوى العمل في القطاع التعليمي الخاص، شارحاً أنّه "بالإضافة إلى جودة التعليم المتردية فيه، لا يمكن للأستاذ فيه الحصول على ترقيات وظيفية في السلم الأكاديمي".
من جهتها، تطالب رمضان السلطات بـ"الالتفات سريعاً إلى إصلاح قطاع الجامعات الليبية من الناحية الإدارية وكذلك العملية"، مشيرة إلى أنّ "حصر طموح الأستاذ في الحصول على تعيين في إحدى الجامعات يمثّل سقطة كبيرة للقطاع الجامعي". وتؤكد رمضان أنّه "من المفترض أن يتّجه اهتمام السلطات بالتنسيق مع الجامعات إلى إصلاح مخرجاتها وتناسبها مع سوق العمل". تضيف: "صار واقع الأستاذ سيئاً وطموحه ينحصر في الحصول على وظيفة جامعية ويستنزف كثيرا من عمره قبل الوصول إلى الوظيفة"، مؤكدة أنّ "الجامعات مكتظة بالأساتذة الجدد من دون أن يعمل هؤلاء في مجال تخصصاتهم".