"من حق أحمد أن يحظى بحريته، ابني يحتاج حضناً دافئاً وعلاجاً، فهو مريض ويعاني من الضعف والهزال، بسبب وضعه في الحبس الانفرادي طيلة هذه المدة، نناشد العالم كله أن يتدخل لإطلاق سراحه، وأن يواصل دعمه حتى ينال حريته". بهذه الكلمات المؤثرة بدأت والدة الأسير المقدسي أحمد مناصرة من حي بيت حنينا شمالي القدس المحتلة، حديثها مع "العربي الجديد"، وهي لاتزال واقعة تحت تأثير ملامسة إصبعه في آخر زيارة له.
وتضيف الأم لـ "العربي الجديد": "ابني مريض، لقد كانت قوات الاحتلال سبباً في ما يعانيه اليوم، ليس حلًا أن يبقى في العزل، كأم وكعائلة نناشد العالم كله أن يتدخل للإفراج عن أحمد".
عيون أم أحمد تحكي ألف وجع. #نزع_الطفولة #الحرية_لأحمد_مناصرة pic.twitter.com/csGGoyL0ln
— Maha seyrek (@Maha020842733) November 10, 2022
لمس الإصبع.. حلم تحقق!
لحظات مؤثرة جداً عاشتها والدة أحمد الأحد الماضي، حينما لامس إصبع يدها إصبع نجلها من خلف قضبان السجن بعد سنوات سبع عجاف قضاها محبوساً من أصل اثني عشر عاماً، ثم خفضها لاحقاً إلى تسع سنوات.
والدة أحمد التي التقاها "العربي الجديد" في منزلها في بيت حنينا، كانت مازالت تحت وقع تلك اللحظات المؤثرة، قالت لنا: "إن جزءاً من أمنيتها تحقق، ولكن بعد معاناة شديدة، حين أحضروا أحمد سارعت إليه لأحضنه إلا أن السجانين اعترضوا طريقي وقالوا لي ممنوع أن تصلي إليه، أخبرتهم أن القاضي سمح لي بملامسة إصبعه، لكنهم رفضوا، ثم انصاعوا لأمر القاضي، وكان لي ما أردت، وما أن لامس إصبعي إصبع أحمد حتى بدأ يقبله، وهو يرتجف، عندئذ أردت أن أحضنه كله، لكن السجانين تدخلوا ومنعوني من احتضانه، ولم يسمحوا لي بأكثر من لمسه بإصبعي".
كان لمس إصبع أحمد بالنسبة للأم بعضاً من حلمها وهي كانت تحلم بأكثر من ذلك، فقد تمنت لو أن يسمح لها قاضي المحكمة المركزية الإسرائيلية في بئر السبع بأن تحضن نجلها وتعانقه، لكن القاضي بعد أخذ ورد مع سجاني أحمد المعروفين بـ"الشاباص" رفضوا ذلك كليًا، لكن القاضي طلب منهم أن يسمحوا لوالدة أحمد أن تلامسه بإصبع واحد فقط!.
"طلبت أسلم على ابني رفض القاضي.. لأول مرة مسكت إصبع ابني من 7 سنين".. والدة الأسير المقدسي أحمد مناصرة تتحدث عن لقائها به خلال محاكمته اليوم#الحرية_لأحمد_مناصرة #FreeAhmadManasra pic.twitter.com/7QyZs2M63Z
— AlQastal القسطل (@AlQastalps) November 13, 2022
حدث ذلك وتحققت أمنية أم أحمد منقوصة قبل يومين، لكنها لم تفوت هذه الفرصة التي أتيحت لها وهي التي تريد أن تلمس نجلها الذي غاب عنها كل هذه السنوات الطويلة، بعد اعتقاله عام 2015، ولما يتجاوز سن الرابعة عشرة أو أقل من ذلك.
لقد فرحت الأم بعد لوعتها لبعد أحمد عنها طيلة هذه السنوات، بعد ملامسة نجلها الذي ما زال في نظرها ذلك الطفل الذي اعتقلوه وعذبوه وأخضعوه لتحقيق قاس قبل أن يصدروا عليه حكمهم الجائر بالسجن".
تقول والدة أحمد لـ"العربي الجديد": "نعم فرحت لما تحقق لي، لكن أحمد كان يرتجف بقوة ويشد على إصبعي بشدة، سألته إن كان يشعر بالبرد فأجاب بالنفي، وقال لي: إنه يرتجف فرحاً هو الآخر".
حرمان الوالد!
كان والد أحمد حاضراً في جلسة المحكمة وبرفقته المحامي خالد زبارقة من طاقم المحامين المدافعين عن نجله، لم يسمح له بأن يقترب من نجله ليلامسه حتى ولو بإصبع واحد كما فعلت والدته.
يقول الوالد لـ"العربي الجديد": "هذا متوقع، وليس مستغرباً منهم، لقد سمحوا لوالدته فقط أن تلامسه بإصبعها لتظل الفرحة منقوصة، حتى مشاعرنا بالفرح يحاولون مصادرتها، وبالتالي حتى أمر القاضي بالسماح لها بلمس ابنها لم ينفذ بسهولة، بالتالي كان ما حدث إنجازًا لم نكن نحن نحلم به بالنظر إلى ما يمارسونه بحق أسرانا حتى ولو كانوا أطفالاً".
هكذا حدثت القصة
المحامي خالد زبارقة تحدث لـ"العربي الجديد" عن واقعة ما حدث فقال: "حدث ذلك في جلسة المحكمة التي انعقدت بناء على طلب النيابة العامة الإسرائيلية من المحكمة تمديد فترة عزل أحمد في سجنه الانفرادي لستة شهور إضافية".
ويتابع زبارقة: "خلال انعقاد المحكمة طلبنا أن يسمح لوالدته باحتضان نجلها وتقبيله، إلا أنه رفض، كما رفض طلبنا بأن يسمح لها بمصافحته فرفض أيضاً، لكنه سمح لها بأن تلمسه بإصبع واحد وهذا ما كان! فكانت لحظات جياشة ومؤثرة ومليئة بالعواطف، خاصة حين أقبل الابن يقبل إصبع أمه، وتبادله القبلات من خلف القضبان لبضع دقائق، علماً بأن القانون لا يمنع القاضي من أن يصدر أمراً بالسماح للأم بأن تحضن ابنها المعتقل بعد هذه السنوات السبع من البعد والفراق".
أصل الحكاية
يعود أصل الحكاية بالنسبة للطفل أحمد إلى 12 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2015، أي بعد أيام قليلة من اندلاع "انتفاضة القدس"، حين أطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي نيران أسلحتهم الرشاشة باتجاه الطفلين المقدسيين أحمد وحسن مناصرة في مستوطنة "بسغات زئيف" شمالي القدس المحتلة، بحجة محاولتهما تنفيذ عملية طعن، من دون مراعاة لصغر سنّهما وبراءة طفولتهما، فأصيبا بجروح وتُركا ينزفان دماً في الشارع، من دون تقديم الرعاية الطبية اللازمة لهما، ثم تعرّض جسداهما لهجوم بشع من المستوطنين بـ"الدعس" والضرب المبرح والتنكيل والشتائم، على الرغم من معرفتهم بإصابة كلّ منهما بجروح بالغة الخطورة، فارتقى حسن شهيداً.
أمّا أحمد، الذي لم يكن قد بلغ الرابعة عشرة من عمره، فأصيب إصابات بليغة، وتم اعتقاله واستجوابه، قبل أن يُنقل إلى المستشفى مكبلاً بالسلاسل، ليمكث هناك في العناية المركزة، ولكن، بعدها بفترة وجيزة، وقبل أن يتم شفاؤه بالكامل، تم نقله إلى "مراكز التحقيق"، جاء فيديو "مش متذكّر"، وهو مقطع سرّبه الاحتلال الإسرائيلي ويظهر فيه الطفل المقدسي أحمد مناصرة، يجيب عن أسئلة ضابط التحقيق ويصرخ "مش متذكّر"، كان مشهداً صادماً ومؤلماً للغاية، وواحداً من أبرز مشاهد "انتفاضة القدس" التي أرشفَتها الذاكرة الفلسطينية، وما زال عالقاً في أذهان كل مَن رأى وتابع الحدث، وسيبقى عنصراً مهماً في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، ولدى كل المدافعين عن حقوق الطفل والأحرار في العالم أجمع، حتى تحول أحمد إلى أيقونة الانتفاضة وصار معلماً للطفولة الفلسطينية المعذبة.
استهداف أطفال فلسطين
أظهر الحدث فظاعة الاستهداف الإسرائيلي المتصاعد للأطفال الفلسطينيين، وخصوصاً أطفال القدس، وبشاعة التعامل الإسرائيلي معهم. وكشف المقطع المرئي، وبصورة جلية وواضحة، ما يمارسه المحققون الإسرائيليون من ضغط وتعذيب نفسي بحق المعتقلين من الأطفال.
كما عكس أجزاء من تفاصيل مروعة لِما تعرض له الطفل أحمد مناصرة الذي ما زال يعاني آثار الحدث وتداعيات الإصابة وتأثير الصدمات النفسية حتى الآن، بين جدران السجن، في زنزانة ضيقة في سجن "إيشل" في بئر السبع، بحالة صعبة جسدياً ونفسياً.
تعذيب نفسي وجسدي
عائلة أحمد أكدت أكثر من مرة أن ابنها تعرّض لضرب مبرح أدى إلى كسر في الجمجمة وتسبب بورم دموي فيها، كما تعرّض لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والترهيب النفسي واستخدام أسلوب التحقيق الطويل من دون توقف، والحرمان من النوم والراحة، وتعرّض أيضاً لضغوط نفسية كبيرة، وما زال يعاني آلامًا بالرأس وصداعا دون تقديم العلاج المناسب، ما أدى لتفاقم اضطرابات نفسية أصيب بها مع استمرار عزله الانفرادي، ومنع وجود حاضنة اجتماعية له من الأسرى.
وبعد جهود قانونية وحقوقية ومهنية حثيثة من أخصائيين نفسيين واجتماعيين، زارته أخصائية في الطب النفسي، وأفادت بأن أحمد يعاني اضطراباً نفسياً، وأن الأدوية التي يتناولها غير مناسبة وتزيد في تفاقم حالته النفسية، وأنه بحاجة إلى تشخيص مهني سليم ومعالجته بأدوية مناسبة وإنهاء عزله، وأن العلاج الأمثل له هو وجود حاضنة اجتماعية في غرف السجن، أو في الفضاء الخارجي، تساعده على تجاوُز الأزمة النفسية التي ساعد الاحتلال، بل عمل على تفاقمها بالعزل والعلاج غير المناسب والإفراط في تناول الأدوية المخدرة والمنومة.
وتؤكد العائلة أنها حاولت مع الطاقم القانوني والطبي والنفسي والاجتماعي تنفيذ توصيات الأخصائية النفسية بعد زيارتها الوحيدة واليتيمة، لكن من دون أي استجابة من سلطات الاحتلال.