لم تتضح بعد كل مضاعفات القرار الذي أعلنه المدير العام لوزارة التربية والتعليم العالي عماد الأشقر عن "توقف الدروس بعد الظهر في المدارس الرسمية لغير اللبنانيين، عملاً بمبدأ المساواة"، إلا أن ما طفا على السطح يؤشر إلى مشكلات تتجاوز "الانفعال العنصري".
يهدف القرار إلى محاولة تحميل مسؤولية استكمال العام الدراسي للمجتمع الدولي، في ظل صعوبات من بينها أجور ومطالب المعلمين، والخدمات التعليمية من كهرباء وإنترنت وتدفئة وغيرها، والواضح أن المستهدف منه هو دفع الجهات الدولية المانحة لتقديم المزيد من الهبات لتفعيل المدارس الرسمية المتوقفة عن تعليم أبناء اللبنانيين والسوريين على حد سواء.
يحمل الإعلان عن القرار من مقر مجلس الوزراء الكثير من الدلالات، فهو قرار لا يتخذه مدير عام، بل حصل على موافقة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، وقبله وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي، والذي شاء أن يأتي الإفصاح عنه على لسان المدير العام، وليس منه شخصياً، وهو بمثابة إبلاغ للجهات الدولية المانحة بأن مصير الطلبة السوريين لن يكون أفضل حالاً من زملائهم اللبنانيين.
وأبلغ ميقاتي الروابط والهيئات النقابية للمعلمين أنه ليس باستطاعة الحكومة تأمين حوافز وعطاءات للقطاع التعليمي الذي أعلن عن إضراب مفتوح بسبب الانهيار المعيشي الذي يعانيه المعلمون، والذي يعجزون معه عن الوصول إلى مدارسهم.
وأبلغ الوزير الحلبي هيئات المعلمين في مفاوضات سبقت الإضراب بإمكانية دفع 5 دولارات لكل معلم عن كل يوم تدريس باعتباره "بشرى سّارة للهيئة التعليمية"، ما أثار عاصفة من الرفض، إذ لا يضمن المبلغ مساواتهم بالعاملات المنزليات اللواتي يتقاضين المبلغ نفسه عن كل ساعة عمل، ما أدى إلى تصاعد الإضراب "ردّاً على الإهانة".
حاولت الوزارة عبر بيان الاعتذار للمعلمين، وتقدير عطاءاتهم وظروفهم الصعبة، لكن الأوان كان قد فات على هذا، وعمت الإضرابات مدارس لبنان، ما جعل شبح ضياع العام الدراسي حاضراً أمام التلامذة، لبنانيين وسوريين.
ويطرح الوضع إشكالية تكفل المنظمات الأممية بنفقات تعليم الطلبة السوريين اللاجئين في لبنان، وتفترض المنظمات مع الدول المانحة أن تتكفل الدولة اللبنانية بتأمين تعليم اللبنانيين، وهو ما تبين العجز عن تلبيته في ظل الإفلاس القائم، والاعتماد على الاستدانة من المصرف المركزي بعد أن خسرت الليرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية أكثر من 95 في المائة من قيمتها.
تدعم "يونيسف" أكثر من 192 ألف تلميذ غير لبناني في المدارس الحكومية
تدفع الجهات المانحة الدولية عبر "يونيسف" عن كل تلميذ من اللاجئين السوريين مسجل في الفترة الصباحية بالمدارس الحكومية اللبنانية 600 دولار أميركي، تذهب 160 دولاراً منها إلى صندوق المدرسة، وتخصص 340 دولاراً لكلفة التعليم والأجور، و100 دولار بدل استهلاك مدرسة، وفي السنوات الثلاث الأخيرة، لم يحوّل هذا المبلغ لأنّ الجهات المانحة قرّرت بناء 8 مدارس رسمية بموافقة مجلس الوزراء، كما تدفع عن كل تلميذ مسجل في الفترة المسائية 363 دولاراً، تقسّم إلى 160 دولاراً لصندوق المدرسة ومجلس الأهل، و203 دولارات للمدرّسين المستعان بهم، وهم أساتذة ترتبط عقودهم بتعليم اللاجئين السوريين.
والواضح مما قاله مدير عام وزارة التربية عماد الأشقر أن الدولة اللبنانية تريد ربط حل مشكلتها في القطاع التعليمي بتعليم اللاجئين السوريين، علها تحظى بمنح تستطيع تقديمها للمعلمين كما جرى في السابق حين قدمت لهم حوافز بقيمة 120 دولاراً لمدة شهرين، ثم خفضتها إلى 90 دولاراً لمدة شهر واحد، ثم توقفت عن دفعها.
الموقف ذاته جرى التعبير عنه بأشكال شتى من قبل مسؤولين يمارسون عملية ابتزاز للمجتمع الدولي عبر التلويح بوجود أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري، مع كل ما يترتب على إقامتهم من ضغوط على الخدمات العامة، ويتمحور التهديد حول أمرين؛ أولهما غض النظر عن مراكب تهريب البشر، وثانيهما إعادة المهجرين قسراً إلى سورية، رغم عدم توفر شرط العودة الآمنة والطوعية.
ويمكن القول إن الأطفال السوريين، وكذلك معظم التلاميذ اللبنانيين، باتوا بعد وباء كورونا أكثر أمية مما كانوا عليه. لكن السوريين كانوا أكثر تأثراً بالجائحة بالنظر إلى خيامهم المكتظة، وأوضاع الأهل الذين يعتبرون أبناءهم مصدر دخل، ويدفعونهم إلى سوق العمل مقابل حفنة من الليرات، فضلاً عن أن أسباب التسرب تشمل صعوبات تعترضهم في المناهج اللبنانية مقارنة مع السورية، إذ يعانون من صعوبات في مواد اللغات والاجتماعيات والرياضيات والعلوم، والأخيرتان تدرّسان في مدارس لبنان باللغة الأجنبية.
حاولت منظمة "يونيسف" حل هذه المعضلة، فأطلقت مع وزارة التربية والتعليم العالي، بشراكة مع الاتحاد الأوروبي وبنك التنمية الألماني، برنامج المدرسة الصيفية لمساعدة الطلاب على تعويض أيام التوقف الطويلة عن التعلّم ومن أجل تهيئتهم للانخراط في التعليم المباشر خلال السنة الدراسية الجارية.
قدّر مدير الأمن العام اللبناني عدد اللاجئين السوريين بما يزيد عن مليوني لاجئ
توجهت المبادرة نحو مرحلة التعليم الأساسي في المدارس الرسمية والخاصة، وتضمنت مساعدة مالية لدعم المعلمين، وتسهيل انتقال الطلاب لزيادة حضورهم، وبلغ مجمل الذين شاركوا فيها 151 ألفاً خلال عامين، وفي 870 مدرسة.
تظهر أرقام "يونيسف" أن عدد التلاميذ غير اللبنانيين الذين كانت تدعمهم في المدارس الحكومية خلال عام 2016 تجاوز 141 ألفاً، وفي العام التالي ارتفع إلى أكثر من 213 الفاً، وفي عام 2018 انخفض العدد إلى 206 آلاف، ثم تابع انخفاضه إلى 192 ألفاً في عام 2020.
تؤشر هذه الأرقام إلى ضعف الإقبال على الدراسة. نتحدث عن نحو نصف مليون تلميذ يفترض وجودهم في المدارس من أصل حوالي مليون ونصف المليون لاجئ، علماً أن مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم قدّر العدد مؤخراً بما يزيد عن مليوني لاجئ، بينما المسجلون في مفوضية اللاجئين لا يصلون إلى المليون، ما يعني أن هناك فارقاً يتجاوز المليون شخص بين المسجلين وغير المسجلين.
حاولت الوزارة حصر التعليم بداية بالتلاميذ السوريين الذين يملك آباؤهم أوراق إقامة قانونية، ما يعني حرمان غير المسجلين لدى المفوضية وأجهزة الأمن اللبنانية، وهو أمر أثار الكثير من التساؤلات.
تعطي المدارس الرسمية الأولوية للبنانيين، ثم من هم في محيطها القريب من الوافدين من مدارس أخرى، وبعدهم لمن تكون أمه لبنانية، ثم للاجئين الفلسطينيين، ثم السوريين. لكن نقطة ضعف القرار تأتي من تراجع الإقبال على المدارس الحكومية، ما يعني قدرة استيعاب غير مستثمرة.
وعندما طرحت هيئات دولية إمكانية دمج التلاميذ السوريين مع أقرانهم اللبنانيين في الصفوف، عارض المعلمون والروابط النقابية ذلك، فأُحبط هذا التوجه، ونشأت مدرستان، واحدة للبنانيين صباحاً، وثانية للسوريين مساءً.
بين 2011 و2022، بات دخول السوريين إلى المدارس أمراً حتمياً نتيجة إلحاح الهيئات الأممية، وجرى التنسيق مع وكالات الأمم المتحدة بشأن إدخال التعليم ضمن سياسة الاستجابة الإنسانية للأزمة السورية في لبنان، وتقوم هذه الجهات بتخطيط وتنظيم السياسات التعليمية للأطفال اللاجئين وتطبيقها وتنفيذها عبر استراتيجية "إيصال الحق بالتعليم للجميع"، والهدف احتواء نصف مليون طفل في سن الدراسة في نظام تعليمي يستوعب مئتي تلميذ لبناني فقط، وفي ظل معضلات مزمنة تواجه القطاع التعليمي.
تبعاً لهذا، جرى حصر فرص التعليم النظامي للأطفال السوريين في لبنان على القطاع الحكومي، واستحدث نظام التعليم المسائي لاستيعاب الأعداد، وحالياً 75 في المائة من السوريين مسجلون في الدوام المسائي.
ويفضل أهالي الطلاب السوريين تسجيل أولادهم في الدوام الصباحي، نظراً لنوعية التعليم، كما أن تأخر أبنائهم في العودة أمر غير مقبول، وخصوصاً الفتيات، إضافة إلى أن المعلمين الذين اختيروا للتدريس المسائي من المتعاقدين، وبعضهم لا يمتلك المهارات التعليمية. ويستطيع أبناء اللاجئين السوريين المتابعة في المدارس المهنية والتقنية اللبنانية، لكن الثقافة السائدة تفضّل إرسالهم إلى الورش الحرفية على الدراسة.
ووفقاً للإحصائيات، هناك انخفاض في نسبة التلاميذ الذين يواصلون دراستهم بعد المرحلة الابتدائية، وتُظهر دراسة سابقة لمجلس اللاجئين النرويجي أنّ 78 في المائة من الأطفال غير الملتحقين بالمدارس لم يتسجّلوا بسبب الفقر، وأن 62 في المائة منهم أجبروا على ترك المدرسة بسبب مشكلات مادّية، و52 في المائة منهم لم يلتحقوا بالمدرسة من قبل.
رصدت ملايين الدولارات، وخُصصت مئات المدارس للاجئين السوريين، وهناك وحدة خاصة في وزارة التربية للمتابعة، وأنشئت مئات الجمعيات لدعم تعليم أطفال اللاجئين السوريين.
بالنظر إلى تعدد وتشابك الجهات، وتباين الأرقام، يصعب تحديد الأموال والكيفية التي أنفقت بها لدعم عمليّة تعليم اللاجئين السوريين في لبنان، فهناك التعليم النظامي الذي تنفّذه وزارة التربية، أو للدقّة وحدة التعليم الشامل في الوزارة، وتعليم غير نظامي تنفّذه جمعيات أهلية عبر مشاريع تحصل على تمويلها من جهات مانحة.
وطلب لبنان في الفترة بين 2016 إلى 2021 مبلغ 2.1 مليار دولار للتعليم، لكنّه لم يحصل سوى على 204 ملايين دولار من البنك الدولي، من بينها 100 مليون كقرض، و600 مليون دولار عبر "يونيسف"، بالإضافة إلى مساهمة المنظمة غير النقدية المقدرة بـ 129 مليون دولار، و11 مليون دولار من مفوضية اللاجئين، و32 مليون دولار من الدول المانحة مباشرة عبر البنك الدولي، يُضاف إليها 204 ملايين دولار لمشروع دعم التعليم، وهي 100 مليون دولار كقرض و104 ملايين كهبة.
وقدّرت دراسة حديثة أنّ المبالغ المخصّصة للتعليم التي وصلت من الخارج منذ عام 2011 بلغت 1.2 مليار دولار، يُضاف إليها 297 مليون دولار مساعدات لدعم العائلات الفقيرة لمنع التسرّب، وهبات من بريطانيا واليابان وغيرهما، ومساعدات عينيّة تقدّر بالملايين.
هذه المبالغ كان يمكن أن تكفي لو أُنفقت على تعليم اللاجئين السوريين، وهنا يظهر غياب الشفافية والمساءلة والمحاسبة، كما تقاضى موظفو وحدة التعليم الشامل المعيّنون من خارج الوزارة، وهم في الغالب من أنصار التيار الوطني الحر، أجوراً وصلت إلى 10 آلاف دولار شهرياً. قام بعدها الوزير طارق المجذوب بتخفيضها، كما أنشأ وحدة للإشراف المالي على المشاريع الممولة من جهات مانحة، ترفع التقارير المالية دورياً إلى الوزير، وحين أثار وزير التربية السابق مروان حمادة موضوع الأموال والهبات التي وصلت من الجهات المانحة تحوّل الأمر إلى مشكلة شهدها اجتماع مجلس الوزراء، وغادر حمادة الجلسة غاضباً بعد ملاسنة مع وزير التربية الأسبق إلياس أبو صعب.
الحصيلة التي يمكن الخروج بها أن الفساد أطاح عملياً تعليم اللبنانيين والسوريين، علماً أن لا أحد يتحدث عن ضرورة إجراء تحقيق جنائي حول تلك الأموال، وما استقر منها في حسابات خارجية، أو التدقيق في المنظمات والجمعيات المدنية التي انتشرت كالفطر، وابتلعت هبات ومساعدات وقروضاً.