تتوالى حوادث انهيار المباني السكنية في لبنان لتطرح تساؤلات حول الجهات المعنية بتحمّل المسؤولية واتخاذ الإجراءات الضامنة للسلامة العامة. وفي حين تمكّن مؤخراً سكان أحد مباني منطقة صحراء الشويفات في محافظة جبل لبنان، من إخلاء منازلهم قبل انهيار المبنى بدقائق، لم ترحم حوادث أخرى السكان، وسُجّلت أعداد من الضحايا والجرحى. وليل أول من أمس الاثنين، توفي 4 أشخاص نتيجة انهيار مبنى سكني مأهول في منطقة الشويفات، وتمكنت عناصر الدفاع المدني من انتشال 4 أحياء من تحت الأنقاض.
وقبل أيام، انهار جزء من مبنى مؤلف من طابقين في محيط المدينة الرياضية في منطقة مكتظة سكنيّاً في بيروت. وطاولت الانهيارات منذ قرابة أربعة أشهر مبنى سكنيّاً في منطقة المنصورية (قضاء المتن) إلى الشرق من العاصمة اللبنانية، ما أدى إلى سقوط ضحايا وتشرد عائلات.
يوم الخميس الماضي، اجتمعت لجنة الأشغال النيابية لبحث الواقع والحلول الطارئة. وكان لافتاً عدم وجود أي مسح دقيق يحدد عدد الأبنية المهددة بالانهيار ودرجة خطورتها على صعيد لبنان ككل. يقول رئيس شبكة سلامة المباني المهندس يوسف فوزي عزام، في بيان، إن "انهيار المباني أخيراً في بيروت يفتح ملف الأحياء العشوائية المنسية والمنتشرة على أطراف المدينة"، موضحاً أن "الدولة غائبة عن هذه الأحياء التي يقطنها نحو 700 ألف شخص بكثافة سكانية تصل إلى 39 ألف نسمة في الكيلومتر الواحد، يغطون مساحة 18 كيلومتراً مربعاً من العاصمة ضمن 6 أحياء سكنية. ويبلغ مجموع الأبنية التي يقطنونها نحو 21 ألف مبنى، وفق استبيان أجريناه ضمن برنامج GIS لتخطيط المدن". ويلفت إلى أن "معظم هذه الأبنية شيدت منذ ما يزيد عن 50 عاماً من دون تراخيص ودراسات هندسية".
انعدام الإحصائيات
يقول النائب إبراهيم منيمنة إنه "ما من إحصاء دقيق حول عدد الأبنية المهددة بالسقوط في لبنان، وما من جهة أو مؤسسة مسؤولة عن هذه الإشكالية. بحسب القانون، المالك هو المسؤول الأساسي عن صيانة مبناه، ولا دور لنقابة المهندسين بطبيعة الحال. وهذا يضعنا أمام مشكلة كبيرة بعد توسّع العمران، إذ ليس لدينا اليوم أي إحصاء دقيق عن الوضع الحالي للمباني، كون آلية الترخيص لا تلحظ أي متابعة جدية، بمعنى أنها تلقي مسؤولية الترميم وكلفة الصيانة على المالك، لكنها لا تلزمه بأعمال الصيانة إلا إذا بادر لذلك من تلقاء نفسه نتيجة إدراكه للمخاطر".
ويطالب منيمنة بـ "ضرورة تغيير هذه الآلية لتصبح رخصة الإشغال مؤقتة وتُجبر المالك على إعادة تقييم وضع المبنى كل فترة زمنية معينة من خلال تقرير هندسي فني. وهكذا يدرك المالك مسؤوليته ويتفادى أي ترهل أو تراجع في سلامة المبنى، أو أي تراكم يؤدي إلى مراحل خطرة. كما تقع على البلديات مسؤولية الكشف على سلامة المبنى ومتابعة أي شكوى حوله لاتخاذ قرار الإخلاء من عدمه، بما يضمن السلامة العامة. ثمّ يأتي دور وزارة الداخلية والبلديات. لكننا أمام مشكلة أخرى متعلقة بالأبنية غير المرخصة التي نجهل مكانها ونفتقر لأي إحصاء بشأنها ما يخلف عدداً من المباني العشوائية".
فوضى ورشاوى في رخص البناء
يوضح المحامي علي عباس أنه "بمجرد النظر إلى صور العاصمة والضاحية الجنوبية لبيروت ومدينة الشويفات، وصولاً إلى مدينة صيدا (جنوباً) وطرابلس (شمالاً)، يمكن أن نلاحظ كتلة الباطون الهستيرية التي نمت بشكل فوضوي، من دون أي رقابة على المواصفات والشروط الفنية الضامنة للسلامة العامة". يضيف أن "الوقت يسابقنا. المسألة خطيرة خصوصاً بعد زلزالَي سورية وتركيا كون لبنان معرّضا للزلازل والهزات الأرضية، وكذلك بعد مسلسل انهيار الأبنية والاعتداءات الإسرائيلية جنوب البلاد والحديث عن احتمال اندلاع حرب، ما يستدعي خطة طارئة لمسح الأبنية واتخاذ الخطوات لضمان السلامة العامة".
ويتابع في حديثه لـ"العربي الجديد": "للأسف نلحظ فوضى كبيرة في إعطاء رخص البناء وفق المحسوبيات التي تتيح للبعض مخالفة القانون. وعند سقوط المباني، يظهر الخلل في معايير الإنشاء، كونها أقيمت بهدف تحقيق الأرباح. وهناك مشاريع سكنية وتجارية عديدة هرب أصحابها بعد تحصيلهم الأموال، كونهم حازوا رخص البناء ولاحقاً رخص الإشغال من دون أي كشف فعلي للتأكد من مدى استيفاء البناء لمعايير السلامة العامة. هذه من الأسباب التي أدت إلى وجود أبنية عديدة مهددة، مع أنها ليست قديمة العهد، بسبب تفلت الوضع على صعيد الإدارات الرسمية والبلديات، ناهيك عن الفوضى والرشاوى وإمكانية الحصول على أي مستند من دون وجود أي كشف هندسي".
قنبلة موقوتة
ويلفت عباس إلى أن "السبب الثاني يكمن بالأبنية قديمة العهد، وخصوصاً في المناطق الشعبية والقديمة التي تستدعي أعمال ترميم عاجل. والخلل هنا يكمن في رخص الإشغال التي تُعطى مدى الحياة، علماً أنه من المفترض على البلديات إجراء مسح للأبنية القديمة بشكل دائم، للتأكد من سلامتها أو حاجتها للترميم. أما السبب الثالث فيتعلق بمخالفات البناء والتي تشكل المعاناة الكبرى، كونها تمّت بطريقة غير هندسية ومن دون أي إشراف. وتراكمت المخالفات ما أدى إلى عجز الأعمدة والركائز الأساسية عن تحمّل الثقل والضغط، وأصبحت مهددة بالانهيار، لا سيما في المناطق والأحياء الشعبية القديمة خارج بيروت، كما في طرابلس وعكار (شمالاً) والهرمل (البقاع) وغيرها. لكن الواقع الإنساني المأزوم يفرض نفسه نظراً لعدم القدرة على تأمين سكن بديل وسط التدهور المعيشي الذي يُجبر المواطنين على معايشة خطر الانهيار. ويردع المراجع الإدارية عن اتخاذ قرارات حاسمة. وبذلك، تبقى هذه المباني قنبلة موقوتة في حال حدوث كوارث طبيعية أو حروب، وقد تتحول إلى مقابر جماعية".
ويرى عباس أن "الموضوع الأخطر يبرز في المشاريع الاستثمارية الكبرى، إذ إن أي خطأ هندسي أو أي خطر يهدد أحد الأبنية بالسقوط، سيُلحق الضرر بالأبنية المجاورة، ومن هنا أهمية تنفيذ مسح شامل للأبنية. كما يجب دعم الفئات الأكثر فقراً في حال اضطرّت للإخلاء أو الترميم، وخلق مورد مالي لتطبيق شروط السلامة العامة، بالإضافة إلى مكافحة الفساد الإداري وتعديل وتحديث القوانين المتعلقة بالبناء وآلية منح الرخص والشروط والمواصفات الفنية. ومن المهم الحد من التعديات اليومية ومسح تلك القائمة بهدف إزالتها أو تسويتها". ويكشف أن "وزارة الداخلية والبلديات تتحلى فقط بسلطة الوصاية"، موضحاً أن "المسؤولية تقع على كل بلدية ضمن نطاق عملها، إذ تمنح رخص البناء بالشراكة مع التنظيم المدني، وهي المنوطة بتوجيه إنذارات بالهدم أو الترميم وبتوعية المواطنين حول ضرورة الإخلاء. أما الدولة، فهي مسؤولة عن مسح الأملاك العامة من مدارس متهالكة ومستشفيات وأماكن عامة وأرصفة قد تشكل خطراً بسبب عدم ترميمها وصيانتها. كما يجب إيجاد حل جذري للأبنية المهجورة منذ أيام الحرب الأهلية اللبنانية ووضع إشارة على العقار".
عدد المباني العشوائية كبير جدّاً
إلى ذلك، يأسف نقيب المهندسين اللبنانيين في بيروت عارف ياسين، لـ "عدم وجود أي مسح شامل ودقيق بالنسبة لواقع الأبنية في لبنان، إذ لم تبادر الأجهزة المعنية ولا البلديات واتحادات البلديات إلى تحديد درجة مخاطر كل بناء ومدى سلامته. وما من إحصاء يحدد الأبنية المهددة التي تشهد خللاً إنشائيّاً يستدعي التدعيم. غير أن عدد الأبنية التي تعاني من مشاكل إنشائية كبير".
ويوضح لـ "العربي الجديد" أن "نقابة المهندسين تلعب دوراً استشاريّاً لكنها ليست سلطة تنفيذية رقابية، ولا يمكن أن تحل مكان الدولة والبلديات، إنما تقدم خبراتها العلمية لناحية وضع الأطر الفنية والهندسية وكيفية الكشف على الأبنية وتتشدد في تطبيق مرسوم السلامة العامة. أما المسؤولية الأساسية فتقع على الدولة والأجهزة الأمنية لناحية الرقابة ورصد التجاوزات ووقف أعمال أي بناء مخالف، لا سيما أن الخطورة الكبرى تكمن في المباني العشوائية التي تشكل عدداً كبيراً جدّاً في كل المناطق اللبنانية ولكن بشكل متفاوت، والتي أقيمت ولا تزال من دون أي تراخيص قانونية، ومن دون وجود مهندسين معنيين بالدراسات أو بالتنفيذ، وهي بالتالي أبنية لا تتطابق مع معايير السلامة العامة. ولم تستطع الأجهزة الأمنية منع المخالفات، وآخرها المبنى الذي انهار في منطقة صحراء الشويفات".
ويشير ياسين إلى أن "البلدية المعنية مسؤولة، وفق المادة 18 من قانون البناء، عن إنذار المالك بضرورة إصلاح الخلل الإنشائي ضمن مهلة زمنية وجيزة، وإلا فإنها ملزمة بالتدعيم على أن يسدّد المالك التكاليف. كما أن الترخيص النهائي يصدر عن البلدية التي تتمتع بصلاحيات الإشراف. غير أننا نسمع أن إمكانات البلديات ووزارة الأشغال العامة والنقل والهيئة العليا للإغاثة معدومة. لذلك، من الضروري إقرار قانون يفرض على المالكين الصيانة الدورية للمباني، إلى جانب إلزامية تجديد رخصة الإشغال بشكل دوري بعد خضوع المبنى لكشف هندسي للتأكد من سلامته، خصوصاً أن عوامل الرطوبة وتجمّع المياه وتسرّبها نحو الأعمدة والركائز الأساسية، قد تؤدي إلى تآكل الحديد والباطون، وهنا تقع الكارثة".
انعدام الصيانة منذ عشرات السنين
يستعيد نقيب المهندسين اللبنانيين في طرابلس والشمال بهاء حرب، نتائج التقرير الذي قدّمه إلى لجنة الأشغال النيابية، والذي ينطبق على الواقع الحالي بنسبة 90 في المائة رغم مرور أربع سنوات على إعداده بناء على طلب بلدية طرابلس، كما يقول لـ "العربي الجديد". يتابع: "يشير التقرير إلى أن الأبنية الآيلة للسقوط تُصنّف بحسب تاريخ وطريقة إنشائها، وتتوزع بين أبنية حجرية ذات طابع أثري وتراثي ضمن منطقة طرابلس الأثرية القديمة وضمن وسط المدينة التاريخي، أبنية باطونية ذات طابع تراثي ضمن طرابلس القديمة ومحيطها وامتدادها وأبنية باطونية أخرى. ويوضح التقرير أن أغلب الأبنية في المنطقة القديمة الأثرية متصدع ويعاني من مشاكل النش، بالإضافة إلى العديد من المخالفات والاكتظاظ السكاني والأوضاع الاجتماعية الصعبة. وهناك العديد من الأبنية الباطونية أو المقاسم المتصدعة التي تعاني من النش في المناطق التي استحدثت خارج طرابلس القديمة والمحيطة بها، والتي انطلقت فيها الأبنية الباطونية المسلحة، كالقبة والسويقة والتبانة وجبل محسن والزاهرية والتل والحدادين وغيرها، وكان يُقدّر عددها منذ أربع سنوات بـ 500 بناء".
وفي رسالته للجنة النيابية، يكشف حرب أن "عدد الأبنية المتصدعة والآيلة للسقوط في مدينة طرابلس يفوق 250 للأبنية القديمة و400 للأبنية الباطونية"، محملاً "البلديات ووزارة الداخلية والبلديات المسؤولية الأولى، كون معظم هذه الأبنية لم تخضع للصيانة منذ عشرات السنوات من قبل المالكين. لذلك، نوصي بإنشاء صندوق إيرادات في البلديات تُخصّص عائداته لصيانة الأبنية الأكثر تضرّراً، لا سيما القديمة منها. كما يجب أن تمتنع البلدية عن إعطاء أي إفادة أو ترخيص للمحال أو تجديد عقود السكن والإيجار إلا بعد الكشف الهندسي".