وسط التدابير الخاصة بجائحة كورونا، خسر كثر حول العالم عاداتهم وتقاليدهم. اليوم، في شهر شعبان، يرى أهالي نابلس أنفسهم وقد افتقدوا "الشعبونية".
بخلاف العادة، يفرض الهدوء هيبته على بيت عبد الله المصري في مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية المحتلة، فلا تكاد تسمع في أروقته الواسعة سوى همسات ساكنيه، في وقت كان وقع أقدام الضيوف في السنوات الماضية لا ينتهي طيلة أيام شهر شعبان. فالرجل اعتاد منذ أكثر من ثلاثة عقود، دعوة شقيقاته الأربع وأزواجهنّ وأبنائهنّ إلى جانب عمّاته وبناتهنّ على موائد غداء متعددة، يطلق عليها أهل نابلس اسم "الشعبونية". لكنّه في هذا العام، اكتفى بشقيقاته وحدهنّ بعدما طاول فيروس كورونا الجديد حياة الفلسطينيين الاجتماعية.
يقول المصري لـ"العربي الجديد": "ترددت كثيراً قبل أن أقيم الشعبونية هذا العام، لكنّنا توارثنا هذه العادة عن أجدادنا وآبائنا، من خلالها نسعى إلى كسب الأجر والثواب. لا معنى لشعبان في نابلس من دون الشعبونية، وحينما راقبنا الوضع وسط أزمة كورونا، اختصرنا هذه المناسبة كثيراً". ويؤكد المصري أنّه كان لشهر شعبان قبل زمن كورونا نكهة خاصة في حياته، كتلك التي ترافق شهر رمضان. فلم يكن يمرّ يوم فيه إلا ويلتقي أقارب وأحبة، مرّة في بيته وفي اليوم الثاني في بيت أخيه الأصغر وفي التالي عند أخ آخر، وهكذا دواليك. ويشير المصري إلى أنّ في هذا العام، "كوني كبير العائلة، اتفقت مع أشقائي وشقيقاتي على تقليص العزومة ليوم واحد فقط، وعلى مأدبة الغداء من دون أيّ سهرات أو اختلاط إضافي".
والشعبونية التي استمدّت اسمها من شهر شعبان، تُعَدّ من أقدم العادات التي يتفرّد بها سكان نابلس في فلسطين، على وجه الخصوص. فقد جرت العادة أن يقوم كبير العائلة بدعوة قريباته، كبناته المتزوجات وأخواته وعمّاته وبناتهنّ وبنات أعمامه، للإقامة في منزله يومين أو ثلاثة أيام، تتخللها موائد طعام وحلويات في طقوس احتفالية. وليلاً، تكون السهرة العائلية بحضور الرجال كذلك وسط أجواء مرحة تُسترجع فيها الذكريات.
من جهتها، عمدت الحاجة عائشة عصفور إلى إلغاء "الشعبونية" كلياً، حرصاً على سلامة عائلتها كباراً وصغاراً. وطلبت من أبنائها وبناتها المتزوجين عدم الحضور إلى بيت العائلة إلا للضرورة، كذلك طلبت منهم جميعاً عدم تلبية أيّ دعوة أخرى تصلهم للمشاركة في هذه المناسبة في أيّ مكان آخر. وتخبر عصفور "العربي الجديد" أنّها تنتظر شعبان كما تنتظر رمضان "على أحرّ من الجمر". فهو بالنسبة إليها "الشهر الذي تلتقي فيه العائلة كلها بيوم الشعبونية، ويكون اللقاء حميمياً. فكلّ أبنائي وبناتي يسكنون في خارج نابلس، وكنّا في السابق نحرص على اختيار يوم يناسب الجميع، وغالباً ما يكون الجمعة. لكنّني هذا العام اتفقت مع زوجي على عدم دعوتهم كلياً، وقد وافقني الرأي تماماً".
وتقول عصفور: "نسمع عن تجمعات عائلية في أعراس وبيوت عزاء تتسبّب في مصائب للمشاركين فيها. وحُكي مثلاً عن حفل زفاف في مدينتي نتجت عنه أكثر من خمسين إصابة بفيروس كورونا ووفاة عمّة العريس لاحقاً. فإحدى المدعوات كانت مصابة ونقلت العدوى إلى الحضور". وتسأل: "هل نقدّم عادة متوارثة حتى وإن كانت عزيزة على قلوبنا، على صحتنا؟ هل سوف نسعد لو أصبت أنا أو زوجي المسنّ أو أيّ من أولادي أو أحفادي به؟ طبعا لا. لذلك كان القرار بتأجيل الشعبونية على أمل أن نلتقي في رمضان، في حال كانت الظروف تسمح بذلك".
وإلغاء عائلات نابلس بمعظمها "الشعبونية" هذا العام، لم يترك أثره على التواصل الاجتماعي بين الأهل فحسب، إنّما خلّف أضراراً كبيرة لحقت بقطاع الحلويات. فقد درجت العادة أن تتناول العائلات في سهرة الشعبونية نوعاً من الحلويات من قبيل الكنافة بالجبن أو الفطير أو خدود الستّ وغيرها من الحلويات النابلسية.
وفي هذا السياق، يقول مهند كريم، وهو صاحب محل حلويات في نابلس، لـ"العربي الجديد"، إنّ "أصحاب قطاع الحلويات ومعهم محلات الهدايا والأدوات المنزلية كانوا يعوّلون كثيراً على شهر شعبان، الذين يرون فيه فرصة لزيادة الإقبال على منتجاتهم في رمضان. لكنّ أزمة كورونا خيّبت ظنّ الجميع". يضيف كريم أنّ "التركيز في شعبان يكون عادة على التوصية وليس على الزبون العابر، الأمر الذي يتطلب جهداً وفريقاً كبيراً يستطيع تلبية الكميات المطلوبة من الحلويات المختلفة. ونحن كنّا نبدأ بتجهيز الطلبيات منذ الفجر في بعض الأحيان، خصوصاً يومَي الجمعة والسبت، ففيهما تتركّز العزائم العائلية. لكنّنا اليوم نجلس في بيوتنا. فالحكومة فرضت في هذين اليومين إغلاقاً شاملاً للحدّ من تفشي الفيروس".
ولم تلقِ أزمة كورونا بثقلها على "الشعبونية" فحسب، فقد ألغيت كل الطقوس الشعبية والدينية في شهر شعبان، من قبيل "إيقاد الشعلة" الذي يتمّ في ليلة منتصف شعبان. ومدينة نابلس المعروفة بالنزعة الصوفية، تحيي هذه الليلة بشكل مميز، إذ تنطلق المواكب من أمام الزوايا الصوفية في البلدة القديمة يتقدّمها الأطفال وهم يحملون المشاعل إلى جانب حملة البيارق الملوّنة وقارعي الطبول. يلي ذلك احتفال ضخم يضمّ فعاليات ترفيهية للأطفال مع ابتهالات ومدائح نبوية، بالإضافة إلى فقرات خاصة بالحكواتي.