يتعرض أطفال وقُصّر يشاركون في المواكب التي تحتج ضد الانقلاب العسكري الأخير الذي شهده السودان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لانتهاكات تثير قلقاً واسعاً في المجتمع، ولدى العائلات خصوصاً. وفيما يتحدى هؤلاء الأطفال والقصّر على غرار المحتجين البالغين القمع الذي يواجهونه من أجهزة الأمن، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو أظهرت تصدي أطفال لعبوات الغاز المسيّل للدموع عبر انتشالها من موقع سقوطها على الأرض والرد بقذفها على مواقع انتشار رجال الشرطة. كما نقلت مقاطع أخرى قذف الأطفال رجال الأمن بالحجارة وإغلاقهم طرقاً بكتل الحجارة والإسمنت.
وكان لافتاً مشاركة أطفال في اعتصام نظمته مجموعات مؤيدة لانقلاب قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في محيط القصر الرئاسي بالخرطوم، ما أثار انتقادات حول استغلال الأطفال لتحقيق مكاسب سياسية.
وبين القتلى الذين سقطوا على أيدي القوات الانقلابية 7 على الأقل تحت سن الـ 18، أصغرهم الطفلة ريماز العطا (13 عاماً) التي أصيبت بعيارات نارية أمام منزلها في منطقة الصحافة جنوب الخرطوم خلال احتجاج نظم في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قبل أن تتوفى بتأثير جروحها في اليوم التالي.
وقد تنوعت إصابات اليافعين الناتجة من طلقات نارية استهدف مناطق الفخذ والبطن والصدر في الجسم. كما أوقف بعضهم ونقلوا الى مراكز احتجاز مختلفة للشرطة حيث تعرضوا لضرب مبرح. وبين 30 ديسمبر/ كانون الأول الماضي و4 يناير/ كانون الثاني الجاري، اعتقل 18 فتى.
الضحية مصطفى
وكانت أسرة الطفل مصطفى جودة البالغ 13 عاماً حاولت منعه من المشاركة في احتجاج ضد الانقلاب شهدته مدينة أم درمان غرب الخرطوم نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لكنه استغل لحظات قليلة من عدم المراقبة ولحق بموكب المتظاهرين قرب محطة الشهداء حيث أطلقت الشرطة الغاز المسيّل للدموع بكثافة، وطاردت الشبان فحاول مصطفى الابتعاد ركضاً لكنه وقع في قبضة أفراد من الشرطة الذين أوسعوه ضرباً، بحسب ما يروي خاله إسماعيل عبد الله لـ"العربي الجديد"، والذي يضيف: "لم يكتف رجال الشرطة بضرب مصطفى، إذ أودعوه في مركز احتجاز مكث فيه ليلة من دون منحه أي طعام أو شراب. وبحث أفراد أسرته عنه في ظل انقطاع خدمة الإنترنت والاتصالات الهاتفية، قبل أن تعثر عليه صباح اليوم التالي في مركز الشرطة، حيث حصلت بصعوبة على إذن لزيارته، ثم نجحت في إطلاق سراحه لتكتشف مقدار التعذيب والإهانات التي تعرض لها بلا مراعاة لسنه".
ويوضح أنّ "الأسر تحاول منع مشاركة أطفالها في التظاهرات من أجل تجنيبهم أية مخاطر أمنية، لكنها تستغرب في الوقت ذاته طريقة تعامل الشرطة مع أولئك الذين تعتقلهم. وقد قدمت عائلتنا شكوى رسمية استناداً إلى التقرير الطبي لحالة مصطفى، في محاولة لتوجيه رسالة عن رفض أي أسلوب تعامل عنيف مع أطفال محتجين".
وقد أثار التعذيب الذي تعرض له الطفل مصطفى غضباً واسعاً في الأوساط السياسية والقانونية، ودفع مجموعة محامين إلى التحرك ورفع دعوى جنائية استناداً إلى المادتين 142 و157 ضد المجموعة المتورطة في الانتهاكات التي ارتكبت ضده. يقول أحد هؤلاء المحامين، الصادق علي حسن، لـ"العربي الجديد": "تكرّر تصرفات منفذي الانقلاب الأخير مع الأطفال وممارساتهم التي تنتهك حقوق الإنسان من خلال الاعتقال واستخدام التعذيب والضرب المبرح والتهديد، تلك لنظام الرئيس السابق عمر البشير. وهي تخالف القانون وتتنافى مع قيم وأخلاق المجتمع، علماً أن هناك أدلة على أنّ أفراداً ارتدوا الزي العسكري وآخرين الزي المدني تورطوا في الانتهاكات ضد الطفل مصطفى، ونحن نبدي أسفنا لارتباط هذه الأفعال بجهات يفترض أن تحمي الأطفال وليس انتهاك حقوقهم، ونطالب بضرورة أن يعلم الرأي العام بهذه الجرائم لتحديد الجناة وملاحقتهم".
مسؤولية المخاطر
يطالب الناشط في مجال حماية الطفولة عثمان العاقب، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بأن "يراجع الجميع أنفسهم في شأن الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال، وكذلك مواقفهم التي تزج الأطفال في أتون المواجهات الحالية". ويعترف بأنه أخطأ في تأييد وجود أطفال في اعتصام محيط القيادة العامة للجيش السوداني عام 2019 ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير. كما يستنكر استغلال السلطات طلاب مدرسة الخلاوي لتعليم القرآن للانضمام إلى اعتصام القصر الجمهوري الذي أيد الانقلاب العسكري الأخير، وتعمد التعامل مع القضية بمنطق "ضد الانقلاب أو معه".
ويوضح أنّ "مسؤولية إشراك الأطفال في التحركات المواكبة للمواقف السياسية وتطوراتها على الأرض تقع بالدرجة الأولى على الوالدين اللذين يجب أن يقنعا أي طفل بعدم المشاركة لتفادي المخاطر. كما يتحمل المشاركون البالغون في المواكب مسؤولية منع الأطفال من الانضمام إليهم، أو في الحد الأدنى مسؤولية إبعادهم من أماكن الخطر، وعدم تشجيعهم على رد عبوات الغاز المسيّل للدموع أو القيام بأي أعمال أخرى ذات طابع عنيف، علماً أن الخطر الأكبر يكمن في تنشئة الأطفال على معاداة أجهزة الأمن، وزرع العنف في نفوسهم الذي يتسبب في تأثيرات اجتماعية سلبية كبيرة. لكن ذلك لا يعني أيضاً حرمان الأطفال من حقهم في التعبير والمشاركة وتبني مواقف".
ويندد العاقب بشدة بتعامل الشرطة مع المتظاهرين الأطفال عبر إيداعهم في مراكز احتجاز جنباً إلى جنب مع الكبار، ويصفه بأنه "ينم عن جهل كبير بالقوانين الخاصة بحماية الأطفال التي تفرض تخصيص مراكز احتجاز خاصة بهم"، مشدداً على أهمية إصدار وزير الداخلية أو مدير عام الشرطة تعليمات لكل أقسام أجهزة الأمن والقوات التي تواكب التظاهرات بحسن معاملة الأطفال وإحالتهم إلى الجهات المختصة. كما يطالب بحملة توعية مجتمعية كبيرة تلحظ استخدام وسائل الإعلام وحملات مخاطبة الأسر لتوضيح مخاطر وجود أطفال في التظاهرات، والحدود القانونية والأخلاقية في التعامل معها.
مخالفة قانون الطفل
من جهتها، تعارض الأمينة العامة لجمعية إعلاميين من أجل الأطفال، أسماء التوم، مشاركة الأطفال والقصر في أيّ احتجاجات حتى يبلغوا مرحلة النضج والوعي. وتشير إلى أنها أصيبت في عينها خلال مشاركتها مع أسرتها في صغرها في تظاهرة قبل سنوات، ما اضطرها إلى تلقي العلاج في الخارج.
وتعدد في حديثها لـ"العربي الجديد" المخاطر التي يواجهها الأطفال في الاحتجاجات، ومنها الاختناق بالغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية التي قد تؤدي إلى وفاتهم، وتأثير بعض المواد على الأعصاب، إضافة إلى الرصاص الحي الذي قتل شباناً كثراً. وحثت كل الأسر على عدم اصطحاب أطفال خلال الاحتجاجات، وإقناعهم بأن دورهم أكبر في المستقبل القريب.
وتقول: "نعم هناك فوائد من مشاركة الأطفال في التظاهرات منها زيادة الحس الوطني لديهم، وتعزيز شعورهم بالمشاركة السياسية في بناء مستقبل بلدهم وفرض الحكم المدني، وتنشئتهم على رفض الظلم والدكتاتورية. لكن كل هذه الإيجابيات لا تقاس أو تقارن بالمخاطر، منددة بشدة بالممارسات ضد الأطفال في أقسام الشرطة، والتي تخالف قانون الطفل الصادر عام 2010 وكل المواثيق والاتفاقات الدولية التي وقعها السودان وتلزم سلطاته بإخضاع الأطفال للقانون أمام محاكم متخصصة، وتوفير معاملة خاصة لهم في حال صدرت أحكام ضدهم، وربطها بالدعم النفسي والاجتماعي. وقوات الشرطة تملك مواقع احتجاز مناسبة للأطفال، وأفراد مدربين على التعامل مع الأطفال المحكومين بجنح، كما تتعامل نيابات خاصة مع حالاتهم.
ويشهد السودان وخصوصاً العاصمة الخرطوم احتجاجات منتظمة منذ إعلان البرهان الانقلاب العسكري. وأغلق متظاهرون شوارع وأعلنوا العصيان المدني. في المقابل، واجهت قوات الأمن ذلك بقمع عنيف لحظ استخدام السلاح ضدهم، ما أطلق موجة إدانات دولية وإجراءات عقابية، ودعوات لإعادة الحكم للسلطة المدنية وتصحيح ما حصل.
ومنذ استقلاله عام 1956، لم ينعم السودان إلّا بفترات حكم مدني نادرة، إذ هيمنت الانقلابات العسكرية على معظمها. وبعد سقوط حكم البشير في إبريل/ نيسان 2019، لم تحقق مؤسسات الحكم الانتقالية الكثير، وواجهت تفاقم الأزمة الاقتصادية، وحصل انقسام بين المدنيين والعسكريين أضعف الحكومة.