تأثرت أطلال "قصر البحر" في المغرب بالعوامل المناخية، وقوة أمواج البحر، كما تركه الإهمال عرضة للتآكل وتساقط أحجاره، في غياب أي خطط ناجعة لإنقاذه من التشققات والتصدعات وتكرار الانهيارات، رغم أن البناء التاريخي يعد من بين أشهر معالم مدينة آسفي.
جرى الانتهاء من بناء القصر في عام 1523، وتولى البناء المهندس البرتغالي بويتاك، والذي يوجد نقش يحمل الحرف الأول من اسمه في أحد طوابق برج المدخل، واختار المهندس الجرف الصخري المحاذي للمرسى القديم والمطل عليه لإقامة البناء العسكري، وهو امتداد طبيعي لجرف "أموني" الذي يرتفع عن سطح المحيط بنحو عشرة أمتار، ليكون قلعة حصينة ومنيعة.
أقيم "قصر البحر" على مساحة تقدر بـ 3900 متر مربع، ليكون مقراً لإقامة الحاكم العسكري، ويتولى مهمة الدفاع عن المدينة من الهجمات المحتملة، وضمّ برجاً للحراسة والمراقبة، وعرف الموقع بـ"القلعة البرتغالية"، كما استغله البرتغاليون مركزاً تجارياً، ثم مخزناً للحبوب، واستعمل في بعض الأوقات سجناً.
يعُرف المكان في الوثائق البرتغالية باسم "القلعة الجديدة"، أما تسمية "قصر البحر" فقد أطلقها عليه الرحالة الفرنسي جول بورولي، والذي زار المنطقة في إطار الحملات الاستكشافية التي سبقت الاحتلال الفرنسي للمغرب، وهي التسمية نفسها التي تبنتها سلطات الاحتلال الفرنسي في وثائقها.
بعد استقلال المغرب، ظل الحصن يحمل الاسم الذي يعرف به إلى اليوم، وفي سنة 1922، صنفت الحكومة المغربية هذا المعلم التاريخي والثقافي والسياحي ضمن المباني الأثرية التي تشكل تراثاً معمارياً وطنياً يلزم حمايته باعتباره رمزاً لذاكرة حضارية تعبر عن المشترك التاريخي بين المغرب والبرتغال.
تصدعات متواصلة
فتح "قصر البحر" أبوابه أمام الزوار والسياح في سنة 1963، بعد خضوعه للترميم، لكن مسلسل التصدعات لم يتوقف، إذ انهار جزء من السور الغربي للقصر الذي كان يضم مجموعة من المدافع بعد سنة 2000، وتآكلت أجزاء من القاعدة السفلية، كما انهار ثلثا البرج الجنوبي الغربي في سنة 2010، ما دفع وزارة الثقافة المغربية إلى إغلاقه خشية انهيار مفاجئ، ثم انهار الجزء الغربي بالكامل خلال الفترة ما بين 2014 و2016، والمتمثل في القاعات التي كانت تُستخدم مأوى للجنود، وفي سنة 2017، تفاقم التدهور بشكل خطير.
استمرت وضعية القصر في التدهور يوماً بعد يوم بسبب ما طاوله من إهمال وتقصير، فضلاً عن عوامل الرطوبة، إلى جانب تقاذف مسؤولية ترميمه بين وزارة الثقافة الوصية على القطاع وباقي الشركاء، ولم تفلح الدراسات التحذيرية التي أنجزها باحثون وعلماء آثار ومنهم الباحث في علم الآثار مؤلف كتاب "حصن آسفي الجديد"، سعيد شمسي في لفت نظر السلطات إلى خطورة مصير القصر، ولم تُجد أي من اعتراضات جمعية (ذاكرة آسفي) نفعاً، كما لم تسمع أصوات نشطاء المجتمع المدني وأبناء المدينة المطالبين بالتعجيل في إنقاذ هذه التحفة المعمارية النادرة التي تصارع الدهر والرطوبة وأمواج البحر من التشققات والتصدعات، وبررت المجالس المنتخبة عدم تحملها مسؤولية الترميم بالتكاليف المرتفعة، والنتيجة أن أغلب المواقع الأثرية والسياحية بآسفي تشكو من التهميش، وتعاني من التهدم المتواصل، وفقاً للباحث والمؤرخ إبراهيم كريدية.
بدوره يوضح الباحث المغربي عبد الله النملي لـ "العربي الجديد"، أن "عملية الترميم يجب أن تبدأ من (جرف أموني)، ثم تصل إلى قصر البحر، فمن بين أسباب الانهيار أن الصخرة التي بني عليها القصر لم تعد تقوى على الصمود في مواجهة الأمواج، بسبب إنشاء رصيف ميناء آسفي في عام 1930، والذي أدى إلى تغيير وجهة الأمواج، فأصبحت تتكسر على جرف أموني الذي يمثل بنيان الصخرة المشيد فوقها القصر، إلى جانب أن السكة الحديدية كانت تمر إلى جوار القصر لنقل المواد المعدنية من الميناء إلى مركب آسفي الكيماوي، ما جعل الاهتزازات الناجمة عن مسير القطارات تزيد الوضع تعقيداً".
ناقوس خطر
يتابع نشطاء المجتمع المدني بقلق وضع هذا المعلم التاريخي الذي ينهار بالتدريج ليطمس معه جزءاً من هوية السكان وارتباطهم بالمكان، ما دفعهم إلى تنظيم وقفات احتجاجية عدة لدق ناقوس الخطر. يقول الناشط الجمعوي والإعلامي ابن مدينة آسفي، يونس فدواش، لـ "العربي الجديد": "بُحّت حناجر سكان المدينة وفعاليات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية للمطالبة بتدخل سريع لإنقاذ قصر البحر التاريخي الذي يشكل جزءاً من هوية السكان وذاكرتهم الرمزية، لكن من دون أي استجابة من الجهات الرسمية".
ويضيف فدواش: "نسمع منذ سنوات عن دراسات واتفاقيات لترميم وإصلاح قصر البحر، لكن لا شيء يجري إلى الآن على أرض الواقع في الوقت الذي يعد فيه عامل الزمن محدداً حاسماً في تحديد مصير البناء التاريخي".
وفي وقت سابق، أطلق نشطاء وحقوقيون من مدينة آسفي، عبر الموقع العالمي "آفاز"، عريضة توقيعات إلكترونية تُطالب بإنقاذ معلم "قصر البحر" التاريخي. بدورها وجّهت البرلمانية عن جهة مراكش آسفي، نادية بزندفة، مناشدة لوزارة التجهيز والماء للإسراع بتدعيم "جرف أموني" قبل انهيار قصر البحر، مؤكدة أن الجرف فقد 40 في المائة، ولم يتبق سوى 60 في المائة تحتاج إلى تدخل عاجل قبل فوات الأوان.
وتقول المديرة الإقليمية للثقافة في آسفي، ابتسام أوريامشي، لـ "العربي الجديد"، إن "الجهود متواصلة لإنقاذ قصر البحر وصخرة جرف أموني التي بني فوقها، والتي تآكلت بفعل قوة أمواج البحر، والأطراف المعنية تتحرك على قدم وساق منذ عام 2019، وجرى في ديسمبر/كانون الأول 2022، توقيع اتفاقية لإعادة تأهيل وترميم القصر بين الأطراف المعنية، بما فيها وزارات التجهيز والثقافة والاتصال ووزارة الداخلية والمكتب الوطني للسكك الحديدية والمجالس المنتخبة".
وتوضح أوريامشي لـ"العربي الجديد"، أن "الاتفاقية تتضمن شقين، الأول تتكلف به وزارة التجهيز، ويتعلق بتدعيم صخرة جرف أموني بحاجز إسمنتي لصد الأمواج العالية التي كانت سبباً في تآكل الجرف الذي بني عليه القصر، والثاني تتولاه وزارة الثقافة، ويتعلق بترميم قصر البحر وإعادة تأهيله، وهو التدخل الذي لا يمكن الشروع فيه إلا بعد الانتهاء من تدعيم جرف أموني".