قتل النساء... "جرائم شرف" في أوروبا أيضاً

09 يوليو 2021
شمعة عن أرواح نساء رحلنَ (ماريا شورداري/ Getty)
+ الخط -

 

كثيرون قد يظنّون أنّ "جرائم الشرف" محصورة بالمجتمعات العربية والمسلمة، وأنّ النساء في الغرب، لا سيّما الأوروبيات، بعيدات عن ذلك. لكنّ الأمر ليس كذلك، فثمّة جرائم قتل نساء مشابهة إلى حدّ ما وتأتي تحت اسم "جرائم الغيرة".

تفيد بيانات أخيرة للأمم المتحدة بأنّ نحو 34 ألف امرأة يقضينَ سنوياً حول العالم على أيدي أزواج حاليين أو سابقين أو أفراد آخرين من الأسرة. وبمعدّل يومي، تُقتل نحو 82 أنثى في دول العالم المختلفة، ولأوروبا نصيبها كذلك في استهداف النساء. والأرقام تبدو متشابهة تقريباً منذ عام 2017، خصوصاً تلك المتعلقة بجرائم وقعت على أيدي شركاء. فقد شهدت آسيا وأفريقيا 11 ألف جريمة، فيما كان نصيب الأميركتين ستّة آلاف وأوروبا نحو ألفَين، بحسب تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (أوندوك) العام الماضي.

واستهداف النساء بهذه الجرائم لا يخصّ ثقافة أو بيئة بعينهما، فبينما يُطلق على هذا النوع من الجرائم في الدول العربية وكذلك المسلمة "جرائم شرف" فإنّها تُسمّى "جرائم غيرة" في دول غربية، لا سيّما أوروبية، من قبل الصحافة والمتخصصين في الشأنَين الاجتماعي والنفسي. وبخصوص تلك الأخيرة، يشرح خبراء في علم النفس يشاركون في التوعية بتلك الجرائم أنّها تأتي على خلفية أمراض نفسية يعانيها مرتكبوها من بينهم الأزواج، إذ يخشون أن تهجرهم زوجاتهم أو النساء اللواتي يصنفونهن "ملكية خاصة" لهم.

وبحسب دراسات للأمم المتحدة ارتكزت عليها تقارير مختلفة، فإنّ جرائم قتل النساء على أيدي رجال يعرفون ضحاياهم، كأزواج حاليين أو سابقين، تختلف عن جرائم القتل الأخرى. فتلاحظ تقارير مكتب "أوندوك" أنّ القتلة في هذه الحالة "يعملون وهم متعلمون وليس لديهم ماضٍ جنائي في أغلب الأحيان" في حين أنّ القتل في معظم الحالات لا يأتي "مرتّباً مسبقاً مقارنة بجرائم القتل الأخرى بمعظمها"، خصوصاً في الحالات التي تشهدها دول الشمال الأوروبي المتقدمة. فقد سُجّلت جرائم القتل في حقّ نساء شابات يصغرنَ شركاءهنّ الرجال، وقد بيّنت دراسة لـ"أوندوك" أنّه "إذا كان الرجل أكبر بخمسة عشر عاماً من المرأة، فإنّ مخاطر القتل تزيد، بحسب دراسات أميركية متخصصة في هذا المجال". 

الصورة
ضد قتل النساء 3 (كارلوس تيشلر/ Getty)
(كارلوس تيشلر/ Getty)

تُعَدّ فنلندا في مقدّمة دول شمال أوروبا في هذا الإطار، علماً أنّ سمعة المجتمع الفنلندي لجهة التقدم العلمي والتقني والرفاهية والقانون لا تفسح المجال للتفكير بأنّه مجتمع قد يحتلّ المرتبة الأولى في جرائم قتل النساء. وفي الواقع، بحسب تقارير أممية وأوروبية، فإنّ فنلندا تسجّل أربع ضحايا من النساء من كلّ مليون امرأة، في حين سجّلت جارتها السويد ضحية واحدة من كلّ مليون، وفقاً لبيانات عام 2017. وهو ما يجعل هذا البلد يتصدّر قائمة أكثر بلدان الشمال الأوروبي قتلاً للنساء. وبحسب تقرير سويدي صادر عن مجلس الوقاية من الجرائم، فإنّ نحو 83 في المائة من جرائم قتل النساء في فنلندا شارك فيها رجال مخمورون بدءاً من عام 2011، فيما شكلت نسبة الرجال المخمورين، من مرتكبي تلك الجرائم، في السويد، 46 في المائة.

الأمم المتحدة التي تتابع منذ سنوات قضية العنف والجرائم ضدّ النساء حول العالم لها رأيها في الأرقام المعلن عنها. فهي ترى أنّ "ثمّة أرقاماً معتمة"، شارحة أنّه على الرغم من تقدّم عمليات توثيق تلك الجرائم (القتل والعنف عموماً ضدّ النساء) من قبل الشرطة، فإنّ المعنّفات لا يسجّلنَ دائماً ما يتعرّضنَ له من عنف لدى السلطات المختصة، إذ إنّ نساء كثيرات يعشنَ في ظلّ عنف أسري خفّي ومستمرّ لسنوات. ويعرض مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أمثلة عن كيفية تعاطي الدول مع العنف والجرائم ضدّ النساء. ففي تنزانيا (شرقي أفريقيا) يُغطّى على العنف، خصوصاً عمليات الاغتصاب المنتشرة بشكل واسع، فلا تسجّل الشرطة رسمياً إلّا ثلاث حالات اغتصاب سنوياً. كذلك الأمر في روسيا التي لا تملك إحصاءات في هذا المجال. فبينما تشير تقديرات إلى 14 ألف وفاة بين النساء سنوياً نتيجة العنف الأسري، مثلما أفاد تقرير متخصص في عام 2013 بثّته قناة "بي بي سي" تحت عنوان "جحيم صامت من العنف الأسري" فإن تقارير للأمم المتحدة تجد صعوبة في تحديد الأرقام الحقيقية في عموم روسيا على خلفية عدم التعاطي بشكل علمي ومنهجي مع هذه القضية. وهو ما يجعل العاصمة موسكو بأرقامها الكبيرة تتجاوز بعض أرقام القارات في العنف المنزلي المفضي إلى الموت. في المقابل، تسجّل تقارير أممية وضعاً مختلفاً في الولايات المتحدة الأميركية، إذ إنّ 60 في المائة من النساء اللواتي قُتلنَ تعرضّنَ إلى إطلاق نار فتّاك على الفور، على الرغم من عدم تسجيل عنف أسري سابق.

الصورة
ضد قتل النساء 1 (جيراردو فييرا/ Getty)
(جيراردو فييرا/ Getty)

وبالعودة إلى دول الشمال الأوروبي، فإنّه في المتوسط تُقتَل 17 امرأة سنوياً في فنلندا على أيدي شركاء حاليين أو سابقين، في حين تشهد السويد سنوياً 16 حالة قتل والنرويج 15 والدنمارك 12. و"جرائم الغيرة" هذه يُطلق عليها "جرائم الشرف" في حال كان القاتل والقتيلة من المواطنين المسلمين. واللافت أنّ أيسلندا، العضو في مجموعة دول الشمال إلى جانب فنلندا والسويد والنرويج والدنمارك، لم تشهد إلّا مقتل أقلّ من 0.4 امرأة بين عامَي 2010 و2018. وعن الفترة نفسها، تفيد أرقام مكتب الإحصاء "يوروستات" وكذلك تقرير للأمم المتحدة حول وضع حقوق الإنسان في النرويج في عام 2020 بأنّ 1.3 امرأة من بين مليون تُقتل في النرويج، و1.6 في السويد، و2.1 في الدنمارك، و3.1 في فنلندا.

وبحسب أرقام وكالة الإحصاءات التابعة للمفوضية الأوروبية "يوروستات"، فإنّ مجتمعات أوروبية أخرى تسجّل سنوياً جرائم قتل نساء بنسب متفاوتة بين دولة وأخرى. على سبيل المثال، سجّلت ألمانيا في المتوسّط 127 جريمة سنوياً (وصل الرقم إلى 153 في عام 2017)، وفرنسا نحو 100، والمملكة المتحدة (بما فيها ويلز) نحو 80، وإيطاليا 56، وإسبانيا 47، وهولندا نحو 20 (وصل الرقم إلى 28 في عام 2017)، وليتوانيا ثلاث جرائم، وكرواتيا ستّ جرائم، وألبانيا أربع جرائم، والبوسنة والهرسك جريمتَين، ومالطا جريمة واحدة.

قضايا وناس
التحديثات الحية

لا تقتصر آثار قتل النساء على الجاني والمجني عليها، بل تمتدّ اجتماعياً ونفسياً لتطاول الأطفال في العلاقات الزوجية وأفراداً آخرين في حالات أخرى. على سبيل المثال، رُصدت في مجتمع السويد الاسكندينافي كغيره من دول الشمال، آثار توصف بالفظيعة على مستقبل الأطفال، وفقاً لتقارير رسمية متخصصة، لا سيّما بين الأبناء الذين ليسوا بالضرورة من زيجات مشتركة بل من زيجات سابقة. وسجّلت استوكهولم بين عامَي 2000 و2019 مقتل 315 امرأة على يد شريك (قد يكون زوجاً أو شريكاً من دون زواج وبوجود أطفال). وقد عمدت صحيفة "أفتون بلاديت" السويدية إلى نشر صور النساء القتيلات ما بين عامَي 2009 و2019 ، في تغطية لعقد كامل من الجرائم وبهدف لفت الانتباه إليها وإلى آثارها المستمرّة في المجتمع السويدي على مدى سنوات. ومن بين القتيلات، ضحايا من أصول مهاجرة قضينَ تحت بند "جرائم الشرف"، وقد لقينَ طريقهنّ إلى وسائل الإعلام والرأي العام بشكل مكثّف يختلف عن تغطية "جرائم الغيرة" المرتكبة على أيدي مواطنين أوروبيين أصليين. وفي مجمل الأحوال، فإنّ جرائم قتل النساء بمعظمها في السويد وقعت على أيدي زوج أو زوج سابق أو شريك. وقد سجّلت 153 قتيلة من بين هؤلاء الضحايا تعرّضهنّ على مدى سنوات إلى عنف أسري مع شكاوى للبلديات والشرطة، من دون أن يؤدّي ذلك إلى إنقاذهنّ من القتل. وهو ما يجعل النقاش حول قتل النساء مستمراً حتى يومنا، بعد أكثر من عقدَين على بداية القرن الواحد والعشرين. ويتزايد الاهتمام بتلك الجرائم مع ما تخلّفه من آثار اجتماعية ونفسية بين النساء عموماً، إلى جانب مسؤولية مؤسسات المجتمع عن لجم العنف في داخل الأسر، ليس فقط في السويد بل في عموم دول الشمال الأوروبي. تجدر الإشارة إلى أنّ جرائم قتل الأمهات في السويد، حتى عام 2019، خلفّت 254 طفلاً يتيم الأمّ. وتفيد بيانات رسمية بأنّ 99 طفلاً كانوا في المنزل في أثناء وقوع جريمة قتل أمّهاتهم، فيما شهد 55 طفلاً واقعة القتل، ووجد سبعة أطفال أمهاتهم غارقات في دمائهنّ. وقد شهد هؤلاء الأطفال بمعظمهم أنّ آباءهم قتلوا أمّهاتهم.

الصورة
ضد قتل النساء 2 (تولغا أكمان/ فرانس برس)
(تولغا أكمان/ فرانس برس)

وتركّز التقارير على الحالة النفسية المتدهورة التي يُترك فيها الصغار بعد وقوع الجرائم، خصوصاً أنّهم يصيرون بمفردهم بعد مقتل الأمّ ودخول الأب إلى السجن إلى جانب شعور دائم وعميق بالخذلان يحتاج إلى سنوات من العلاج، وذلك بعد سنوات من العيش في أسرة عانت فيها الأمّ من عنف أسري مفضي إلى جريمة قتل. وتظهر تقارير سويدية أنّ النساء الضحايا بمعظمهنّ كنّ على اتصال مكثّف مع السلطات، من قبيل مكاتب الخدمات الصحية والخدمات الاجتماعية والشرطة ودائرة السجون والمراقبة (بسبب خوفهنّ من خروج شركائهنّ من السجن في حال كانوا فيه). وعلى الرغم من ذلك، تقع الجرائم من دون أن تتمكّن تلك السلطات من تجنيب النساء إياها. يُذكر أنّه في خلال عام من أزمة كورونا، لم يتراجع العنف الأسري في السويد، بل سُجّلت زيادة بنحو أربعة في المائة في استوكهولم بحسب الباحثة في المجلس الوطني السويدي لمنع الجريمة، أوسا فيتكوفيسكي.

ويفيد تقرير للمجلس السويدي لعام 2020 بأنّ البلاغات عن العنف الأسري، بما فيه الاعتداء، سجّلت نحو 13 ألف حالة ونحو ثمانية آلاف تهديد وستة آلاف و600 مضايقة. وتبيّن تقارير للمجلس أنّه منذ عام 2009 بات العنف الأسري يتّخذ طابعاً مختلفاً، إذ يؤدّي الخمر دوراً في إقدام الجاني على العنف. وفي تلك الجرائم، حين يكون الجاني مخموراً، فإنّ العنف الجسدي يؤدّي إلى إصابات متعدّدة للضحية (المرأة)، بخلاف الجرائم الأخرى التي يكون فيها الجاني غير مخمور.

وتظهر بلاغات العنف عن عام 2020، بحسب المجلس السويدي، أنّ حالات العنف ضدّ النساء بمعظمها وقعت على يد أحد المقرّبين الموثوقين من قبل الضحايا في فترة أزمة كورونا بنسبة 80 في المائة. وعلى الرغم من تراجع نسبة الإبلاغ عن إساءات في أشكالها الأخرى، تُلاحَظ زيادة في نسبة التبليغ عن الإساءة إلى النساء بنسبة أربعة في المائة. وتربط فيتكوفيسكي بين تلك الزيادات وانطلاق حملة "مي تو" في عام 2017، فهي بالنسبة إليها "دفعت نساء كثيرات إلى الخروج عن صمتهنّ وتخطّي خوفهنّ وضعفهنّ. وقد أدّى ذلك دوراً رئيساً في زيادة الجرأة على تسجيل حالات العنف ضدهنّ، بالتزامن مع تشكّل وعي في المجتمع يرفض العنف ضدّ النساء عموماً". وترى فيتكوفيسكي أنّه "من الأهمية بمكان استمرار النقاش تزامناً مع استمرار الأزمة الصحية وتوسّع العزلة الاجتماعية التي نظنّ أنّها تساهم في زيادة تعرّض النساء إلى العنف، وذلك بهدف إتاحة المساعدة لهنّ".

المساهمون