لم يكن خطب ودّ القبائل السودانية لمصلحة التكوينات السياسية أمراً مستحدثاً في السودان، لكنّه بلغ أشدّه في عهد الرئيس المعزول عمر البشير (1989-2019) من خلال الضغط عليها رغبة ورهبة، لمبايعة النظام ودعمه ومساندته، بالإضافة إلى استغلالها في التحشيد السياسي اليومي. كذلك سعى النظام إلى تحويل القبائل إلى قاعدة انتخابية في انتخابات يجريها لإضفاء شرعيّة ولو ظاهرية على نفسه. وفي بداية الألفية الأخيرة، توسّع وعمد إلى تسليح مجموعات قبلية لمصلحة حربه مع جماعات متمرّدة في إقليم دارفور، غربي البلاد، الأمر الذي قاد إلى إحداث شروخ اجتماعية كبيرة في الإقليم، ما زالت آثارها قائمة، وذلك نتيجة المجازر المرتكبة من قبل مليشيات قبلية في حقّ مجموعات قبلية أخرى. وقد تدخّلت المحكمة الجنائية الدولية وطالبت بتسليمها متّهمين في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادات جماعية، من بينهم القيادي القبلي علي كوشيب الذي يُحاكَم راهناً أمام المحكمة في لاهاي (هولندا). يُذكر أنّ المجموعات المتمرّدة نفسها، سواء في دارفور أو غيرها، وظّفت الخطاب القبلي لمصلحتها مع تجييش القبائل في معاركها ميدانياً وسياسياً.
وعقب نجاح الثورة الشعبية السودانية في إبريل/ نيسان من عام 2019 بالإطاحة بنظام البشير وبدء التأسيس لدولة مدنية، انتعشت الآمال بتراجع الاستغلال السياسي للقبائل، على أن تعود القبيلة ككيان اجتماعي له علاقاته بالآخر ويتعايش معه ويقوّي أواصر الترابط والتعاضد في داخله، ويسهم إلى حد كبير في بناء وتنمية المجتمعات المحلية والمجتمع السوداني ككل، مع ترك الانغماس الكلي في العمل السياسي وإفساح المجال أمام الأحزاب لممارسة الفعل السياسي بصفتها مؤسسات أنشئت خصيصاً لذلك.
وبدا لافتاً أنّ مجموعة العسكر التي كانت تخطط منذ العام الماضي للسيطرة على الحكم، عمدت حتى قبل تنفيذ انقلابها إلى الترتيب لعمليات استقطاب قبلي، ظهر في دعم إغلاق مجموعة قبائل البجا في شرقي السودان للموانئ الرئيسة والطرقات الرابطة بينها وبين بقية السودان وخطّ سكة الحديد، وتنظيم اعتصام في محيط القصر الرئاسي بالخرطوم هدف حينها لمطالبة الجيش باستلام السلطة من الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك. وقد شاركت في الاعتصام، بشكل أساسي، مجموعات باسم قبائلها، من ضمن السيناريو المعدّ سلفاً من قبل الانقلاب، ما خلق انقساماً في داخل القبائل ببروز أصوات أخرى تحتجّ على تلك المشاركة وعلى الزجّ بالقبائل في المعترك السياسي بتلك الطريقة الصارخة.
بعد تنفيذ الانقلاب في 25 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2021، ومع حالة العزلة السياسية الداخلية ورفض من المكوّنات السياسية ومن الشارع العريض للانقلاب، وهو أمر تمظهر في الحراك الثوري ضد الانقلاب في خلال الأشهر الماضية، عاد قادة الانقلاب إلى القبائل مرّة أخرى بحثاً عن حواضن سياسية وشعبية لمقابلة المدّ الثوري. فتأسست بشكل أو بآخر تحالفات سياسية ذات بعد قبلي، ورُوّج لفكرة إشراك القبائل في حكومة ما بعد الانقلاب، وفقاً لما أعلنه صراحة الفريق أوّل محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم. وتحوّل القول إلى فعل من خلال تعيين قيادات قبلية في مناصب حكومية، من بينها مناصب رفيعة. وحتى في إطار النشاطات اليومية لقادة الانقلاب في مجلس السيادة الانتقالي، زادت وتيرة الاجتماعات واللقاءات والمخاطبات الجماهيرية لمكوّنات الإدارات الأهلية وزعماء القبائل.
الاستقطاب القبلي
وينذر ذلك الوضع بكوارث حقيقية وآثار اجتماعية قبل الآثار السياسية، بحسب ما يرى فائز السليك المستشار السابق لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك. ويقول لـ"العربي الجديد" أنّ "التحشيد والاستقطاب القبلي سوف يفاقمان الانقسامات القبلية والإثنية والجهوية في البلاد"، محمّلاً ما وصفها بـ"السلطة غير المسؤولة" مسؤولية تلك النتائج. ويوضح أنّ الأمر قديم جداً ويعود إلى "عهد الاستعمار البريطاني مروراً ببقية الحكومات الوطنية، وقد أدّى في السابق إلى نتائج سيئة، خصوصاً في إقليم دارفور من خلال تقسيم السكان إلى عرب وزرقة". يضيف أنّ ذلك "تجلّى بعد الثورة في عام 2019 في شرقي السودان، وتسبّب هناك في نزاعات قبلية حادة لم يكن الاستقطاب السياسي واستغلال الزعامات القبلية بعيدة عنه. وإذا استمرّ ذلك على المنوال ذاته فسوف يقود مباشرة إلى تفكيك المجتمعات وتشرذمها بعد مئات السنين من التعايش السلمي النسبي".
ويحذّر السليك أكثر من "نقل التحشيد القبلي إلى المركز والعاصمة الخرطوم، بحسب ما يبدو في هذه الأيام، إذ من شأن ذلك أن يهدم البناء المجتمعي المدني والحضري في العاصمة والمدن الكبيرة بنقل الخلافات والصراعات إليها، وينهي تحصين العاصمة من أمراض القبلية والإثنية والجهوية". كذلك يحذّر من "تأثيرات ذلك الاستقطاب في ظلّ تداخل قبلي واسع للسودان على الحدود مع مختلف جيرانه من الدول، ما يزيد من الاختلال الأمني وزيادة معدلات اللجوء والنزوح وتهريب السلاح والسلع على الحدود، وهو ما يعقّد المشهد الحالي".
ويؤكد السليك أنّ "المطلوب لإنهاء تلك المشكلة هو وقوف الدولة على مسافة واحدة من كل القبائل، والسماح بنشاط الحركات الشبابية في داخل القبائل"، وهي من وجهة نظره "حركات بعيدة كل البعد عن العنصرية والانتماءات القبلية". كذلك يشدد على "دمقرطة المجتمع المدني وإفساح المجال أمام الأحزاب السياسية لتؤدّي دورها كواجهات قومية، مع زيادة الوعي في المجتمعات المحلية وتنميتها والاهتمام بالشباب خصوصاً، ومع الإبقاء على كل الاحترام للقيادات والرموز القبلية وتمكينها من التفرّغ لدورها المجتمعي المطلوب والمرغوب فيه".
ضعف دور الأحزاب
في المقابل، يعبّر المتحدث الرسمي باسم "منبر البطانة الحر" يوسف عمار أبوسن عن رأي مختلف. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "بروز النزعات القبلية في السنوات الأخيرة أتى كنتيجة لضعف دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وصعود الحركات المسلحة في المشهد السياسي. وهذه كلها مظاهر ناتجة عن سوء الإدارة الذي رافق مرحلة الانتقال السياسي في السنتين الماضيتين". ويستشهد أبوسن بـ"منبر البطانة الحر" الذي يصنّفه "كياناً مناطقياً جهوياً"، وهذا بالنسبة إليه "أفضل في الوضع الحالي من النزوع صوب القبلية، ولو أنّه أقلّ من الانحياز إلى القضايا القومية. لكنّ تركيبة مجتمع البطانة بقبائلها المختلفة هي ما جعل وجود كيان مناطقي مهماً وضرورياً لمنع المجتمع من التراجع إلى التحيزات المجتمعية الأضيق".
بالنسبة إلى أبوسن، فإنّ "الترياق الضروري ضد تفشي القبلية هو الدور الواجب على الأحزاب السياسية أداؤه، وهي كانت قد فشلت فيه إلى حدّ بعيد وهربت منه من خلال تصنيف المجتمعات والكتلة القديمة بمنطق مع أو ضد".
وحول الاتهامات الموجّهة إلى الكيانات القبلية والجهوية بالاستجابة إلى ترغيب ومزايا وعطايا السلطة الحاكمة، يقول أبوسن إنّ "ذلك الاتهام يستند إلى نوعية المنابر التي تمارس العمل السياسي، لأنّ الظاهرة السلبية تلك تولّدت بمناخ سياسي غير صحي. لذلك فإنّ كل ما هو سلبي وارد بحقها"، مشيراً إلى أنّه "عندما انهارت بنية النظام السابق، ترك خلفه كتلة مجتمعية كبيرة كانت مصنفة لديه في إطار الولاء العام من دون أن تكون منظمة في داخل هياكله التنظيمية. ففشل نظام ثورة ديسمبر في استقطاب تلك الكتلة أو تحييدها على أقل تقدير". ويوضح أنّ "العنصر الغالب في تلك الكتلة ينتمي إلى كيانات قبلية. وفي خضم الصراع بين مكوّنَي الشراكة السياسية، العسكر والمدنيين في الفترة الماضية، استعان العسكر بقيادات المجتمع من الإدارة الأهلية وتحرّكوا في الفراغ الذي فشلت المكوّنات المدنية في ملئه".
يضيف أبوسن أنّ "تلك المكوّنات المجتمعية القبلية بتلك الهشاشة ولدت في مثل هذه الظروف، ومن الوارد جداً أن تُستقطَب وتُقدَّم ككتلة مجتمعية مغايرة. وذلك الاستقطاب ربما كان عبر تلبية حاجات شخصية أو عامة، وهذا كذلك يعتمد على من يقف خلف الأشخاص والكيانات والبرامج التي يُجاهَر بها". ويتابع أبوسن أنّ "للاستقطاب القبلي مخاطر وكذلك للجهوي، وأنّ القبلية هي الأسوأ والأشد خطراً من الجهوية والمناطقية. فالأشخاص الذين يجمعهم رابط الدم وتسيّرهم قيادة تاريخية يشكّلون حاضنة لخطر يهدد قيم الوطن والمواطنة. أمّا الكيانات الجهوية والمناطقية فهي تجمع خليطاً من المكوّنات المجتمعية تحت سقف المصلحة العامة والمطلب العام".
فقدان الحياد
من جهته، يوضح الناشط جعفر خضر لـ"العربي الجديد" أنّ "انغماس زعماء القبائل في المعتركات السياسية يفقدهم الحياد ويقلل من قدرتهم وحكمتهم في ما يتعلق بحلحلة النزاعات في داخل مجتمعاتهم، عبر الوساطات أو ما عُرف بالأجاويد، تلك الوسيلة المجتمعية السودانية لإنهاء الخصومات القبلية والتي أسهمت بقدر وافٍ في فترات سابقة في إطفاء كثير من نيران التناحر القبلي". يضيف أنّ "ذلك الانغماس يعزل كذلك زعماء القبائل عن محيطهم المجتمعي ويسلبهم الاحترام والوقار والرمزية"، مشيراً إلى أنّ "العبث بالقبائل هو خط أساسي للانقلابيين لترويج مشاريعهم الانقلابية".
ويتابع خضر أنّ "قوى الثورة نفسها قصّرت في السنوات الماضية في إقناع الزعامات القبلية بالثورة وبالدولة المدنية الديمقراطية، إذ إنّها في المقام الأول لمصلحة القبائل لجهة سيادة حكم القانون. ففي الماضي كانت القبائل تنتزع حقوقها وثاراتها بيدها، ولو قامت دولة المؤسسات والقانون لما احتاجت تلك القبائل إلى زيادة الضحايا والدماء. فكل ما تبحث عنه من حقّ سوف تجده عبر القانون والعدالة"، مشدداً على "منح القبائل الاعتبار الكافي كجزء من عملية التغيير الاجتماعي في البلاد بعد الثورة، خصوصاً التغيير المرتبط بالتنمية الاجتماعية، من نشر التعليم والصحة في مناطق القبائل المهمشة والمحرومة في معظمها من تلك الخدمات". ويؤكد خضر أنّ "المتحكمين بالقرار في المركز غير مهتمين بمشكلات الريف وقضاياه، وما لم تكن ثمّة عملية استيعاب للقوى القبلية في منظمة الثورة والتغيير فلن تكون ثمّة حلول"، محذراً من "استمرار الاستقطاب السياسي للقبائل بما يؤخّرعمليات التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان، بالتالي زيادة الانقسامات الحالية ليصل الأمر إلى ما لا تحمد عقباه".