فنزويلي يسرد تفاصيل وصوله إلى أميركا... هجرة عبر الجحيم الأخضر

27 ديسمبر 2023
أدغال دارين أكثر الطرق المحفوفة بالخطر على المهاجرين (Getty)
+ الخط -

ظن مارسيل مالدونادو أن ساعته حانت عندما هدده لص بإطلاق النار على رأسه وأنه سيموت في غياهب غابة مدارية خلال عبوره منطقة دارين في خلال هجرة سرية يخوضها نحو الحلم الأميركي، انطلاقاً من فنزويلا.

في طريق هجرة الفنزويلي مالدونادو البالغ 30 عاماً، وهو مبتور الرجل، تفاصيل يستذكر تفاصيلها، حيث تعرّض لعملية خطف من قبل اللصوص في أدغال دارين التي تتشارك فيها كل من كولومبيا وبنما، مؤكداً أن والدته حذّرته من أن هذا الطريق من أكثر طرق المحفوفة بالخطر على المهاجرين، قائلاً إنه شعر بأن "أحداً لن يعثر على جثته هناك".

الصورة
بقدم واحدة يتقدم مارسيل عبر نهر توسيكا في هجرة سرية نحو اميركا (فرانس برس)
بقدم واحدة يتقدم مارسيل عبر نهر توسيكا في هجرة سرية نحو أميركا (فرانس برس)

حدث ذلك بعد أيام على انطلاقه من فنزويلا في 15 سبتمبر/أيلول مع زوجته أندريا البالغة 27 عاماً، وابنهما بالتبني سامويل، وعمره ثماني سنوات. الخوف الذي اعتراه حينها لم يشعر به في حياته، لكنه لم يكن الوحيد خلال رحلته المحفوفة بالخطر التي استمرت شهرين، ومرّ خلالها بتسع دول.

خلال تلك الأسابيع، تابع أكثر من 15 صحافياً في "فرانس برس" في بنما وكوستاريكا ونيكاراغوا وهندوراس، فضلاً عن المكسيك والولايات المتحدة، رحلته بالحافلة وطوف مائي وسيراً، وهو يتكئ على عصا.

ومارسيل واحد من 77 مليون فنزويلي، أي 25% من العدد الإجمالي للسكان بحسب الأمم المتحدة، غادروا منذ 2014 بلدهم الغني بالنفط والغارق في أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية حادة. في غضون عشر سنوات انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 80%.

وروى المهاجر، قائلاً: "في فنزويلا كنت أتصور حياة البؤس كتلك التي تعيشها عائلتي"، لكنه رفض ذلك لزوجته وابنه.

باع مارسيل بعض مقتنياته القيّمة، وباع والده سيارته للمساعدة في تمويل الرحلة، وانطلق باتجاه الولايات المتحدة.

وترك في ماراكاي (شمال) منزلاً لم ينتهِ من بنائه، وبعض الملابس القديمة في خزانة تفتحها والدته دورايدا ميدينا من وقت إلى آخر لتشمّ رائحته.

هجرة سرية تتطلب مضادات للأفاعي 

عند وصوله إلى شمال كولومبيا، محطته الأولى عند الحدود مع فنزويلا، اشترى المستلزمات الضرورية من مواد مضادة للأفاعي وخيمة وموقد صغير وجزمة.

في هذه المحطة، يتبادل المهاجرون النصائح للصمود في الأدغال، وهم بأغلبهم فنزويليون، لكنْ من بينهم مواطنون من الإكوادور وكوبا وهايتي والصين، فضلاً عن أفغانستان، ومن القارة الأفريقية.

عند وصوله إلى شمال غرب كولومبيا، اضطر إلى دفع 900 دولار لمهربين لعبور خليج أورابا على طوف والوصول على دراجة نارية إلى مدخل منطقة دارين التي تضم مستنقعات وغابة لا تمر عبرها أي طريق.

الصورة
هجرة سرية من فنزويلا نحو أميركا عبر غابة دارين (فرانس برس)
هجرة سرية من فنزويلا نحو أميركا عبر غابة دارين (فرانس برس)

يتقدم المهاجرون في صفوف من نساء ورجال يحمل بعضهم أطفالاً في دروب موحلة، وتصطدم أقدامهم بصخور وسط غطاء نباتي كثيف وبري تمر عبره أنهر رملية.

وروى مارسيل أن "الجنون يبدأ فعلاً خلال الاتجاه إلى بنما مع غياب الأمن وامتناع أي شخص عن بيعك أي شيء. أنت رهن بما في حقيبة الظهر التي تحملها. وتختبئ عصابات الجريمة المنظمة بين الأشجار".

وتفيد منظمة "هيومن رايتس ووتش" غير الحكومية بأن منظمات مثل "كلان ديل غولفو"، كارتيل المخدرات الرئيسي في كولومبيا، تجني عشرات ملايين الدولارات من خلال سيطرتها على دارين.

هجرة عبر الجحيم الأخضر 

في هذا الجحيم الأخضر، ضاقت السبل بمارسيل وعائلته ورفاق درب الهجرة عندما أطلق لص مسلح النار في الهواء، على ما قال. وتابع: "رمونا أرضاً، متوعدين بإطلاق النار علينا جميعاً"، مضيفاً: "تعرّض الرجال الذين ألقوا على الأرض للضرب بسواطير (...) أعطيتهم كل شيء. لن أموت من أجل أشياء مادية".

وتابع: "فتشوا النساء في أماكن حساسة، إنه أمر مروّع لأنكم لا تعلمون ما يمكن أن يحدث". بين يناير/كانون الثاني وأكتوبر/تشرين الأول، وقع 397 مهاجراً ضحايا للعنف الجنسي في هذه الغابة، 97 في المئة منهم نساء، وتولت رعايتهم منظمة أطباء بلا حدود.

أُطلق مارسيل وعائلته بعد ثماني ساعات، ولم تترك معهم إلا هوياتهم.

أمضت العائلة يومين ونصف يوم إضافيين في دارين التي مرّ عبرها أكثر من نصف مليون مهاجر عام 2023، أي أكثر بـ 250 ألفاً مقارنة بعام 2022.

 

الصورة
هجرة سرية من فنزويلا نحو أميكرا لا تخلوا من تضامن المهاجرين (فرانس برس)
هجرة سرية من فنزويلا نحو أميركا لا تخلو من تضامن المهاجرين (فرانس برس)

 

تمكّن مارسيل وعائلته من اجتياز النهر الأخير للخروج من دارين. خرج من الغابة مستنداً إلى غوستافو وخيسوس، وهما مواطنان فنزويليان التقاهما في كوكوتا الكولومبية، قائلاً: "لولاهما، لما وصلت" إلى هنا، متحدثاً عن قوة التيارات المائية التي كانت تنتزع طرفه الإصطناعي.

تُعَدّ باخو تشيكيتو الممر الإلزامي للمهاجرين الذين يغادرون دارين. وفي هذه المنطقة، التقت "فرانس برس" عائلة مالدونادو.

من هذا المكان، استؤنفت الرحلة. تلقى مارسيل أموالاً أرسلتها شقيقته إليه بعدما باعت سيارتها.

في كوستاريكا، كانوا ينامون على كراتين في محطة حافلات. وقالت أندريا، وهي موظفة جامعية سابقة: "كل هذا من أجل الحصول على مستقبل أفضل. في فنزويلا، تعيش فقط لتأكل...".

في هندوراس وغواتيمالا، ساعده أشخاص من خلال شراء سكاكر كان يبيعها في الشارع. في كل مرحلة، وجد تضامناً.

 جبال المكسيك

حذره مهاجر آخر بقوله: "إذا كنت تعتقد أن غابة دارين هي الأصعب، استعد للمكسيك". وكان ذلك صحيحاً.

وقال مارسيل: "كانت المحطة الأصعب"، ذاكراً كلفة المعيشة المرتفعة والمشي الذي لا ينتهي وعمليات الابتزاز المتكرّرة.

في جنوب المكسيك، قال مارسيل إنه أقام في البداية في ملجأ حكومي، لكنه غادره لأنه شعر كأنه "سجين"، مفضلاً النوم في الشارع.

ولتجنب عملاء الهجرة المكسيكيين، لجأت الأسرة إلى الجبال. لكن هناك أيضاً واجه الفنزويلي محنة، فالعشب كان يعلق بطرفه الاصطناعي، ما جعل في كل خطوة معاناة.

وصل مارسيل وعائلته إلى مكسيكو سيتي في 1 نوفمبر/تشرين الثاني، ثم توجّهوا بالحافلة إلى مدينة مونتيري (شمال شرق) من حيث ذهبوا إلى ماتاموروس عبر الحدود من براونزفيل، تكساس، تعرضوا خلالها للابتزاز مرات عدة على طول الطريق من قوات الأمن المكسيكية التي هددت بترحيله.

وفي كل مرة كان يزداد قلقه من أن تنفد أمواله، إذ كان عليه الاحتفاظ بـ 60 دولاراً للمهربين الذين سيأخذونهم عبر نهر ريو غراندي الفاصل بين المكسيك والولايات المتحدة.

ويضاف ذلك إلى الخوف من كارتيل المخدرات "كلان دل غولفو" الناشط في ماتاموروس.

عبور النهر مع مهربي البشر

على أبواب الولايات المتحدة، قرّر مارسيل عدم تقديم طلب لجوء رسمي عبر تطبيق هاتفي تحدد من خلاله السلطات الأميركية مواعيد لذلك، إذ قد يستغرق هذا الأمر أشهراً.

فهو يعلم أن عمليات ترحيل المهاجرين الفنزويليين المقيمين بصورة غير شرعية استؤنفت مع مواجهة الرئيس الديمقراطي جو بايدن ضغوطاً شديدة بشأن قضايا الهجرة قبل الانتخابات الرئاسية في 2024.

قرّر عبور النهر مع مهرّبي بشر طلبوا من الأسرة الاكتفاء بإحضار الهويات والأموال ورمي الأكياس والملابس، قائلاً: "كنت خائفاً جداً. كانوا يبدون أشخاصاً سيئين".

في الليل، نقل المهرّبون عائلة مالدونادو واحداً تلو الآخر على مراكب قابلة للنفخ، وعلى الضفة الأخرى من النهر، تمكن بمساعدة رفاقه من عبور جدار الأسلاك الشائكة الذي يمثل مدخل الولايات المتحدة.

مارسيل: لا يوجد مستحيل

وقال مارسيل في مقاطع فيديو أرسلها إلى أقاربه: "نحن هنا! يا للبهجة!".

كان ذلك يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر. كانت الأسرة قد اجتازت حوالى 4300 كيلومتر، وأنفقت 7 آلاف دولار للوصول إلى الولايات المتحدة.

في تكساس، أخضعت السلطات الأميركية مالدونادو لاختبار الحمض النووي لتسجيل هويته، وأعطته هاتفاً للبقاء على اتصال، وغادر المركز مع عائلته حاملين تصاريح إقامة حتى أيار/مايو 2026، موعد بتّ القاضي طلبات اللجوء الخاصة بهم.

عندما التقته فرانس برس في ديسمبر/كانون الأول في غرينفيل في ولاية ساوث كارولاينا، كان مارسيل يبيع الأزهار في الشارع، بانتظار الاستحصال على تصريح عمل. أما أندريا، فتعمل مدبّرة منزل، فيما يرتاد سامويل مدرسة ويتعلم اللغة الإنكليزية.

في مسكنهم الصغير، أخبر مالدونادو عن أحلامه الكثيرة: العمل سائقَ سيارة أجرة وإنجاب طفل والحصول على طرف اصطناعي جديد وممارسة كرة السلة مجدداً. وختم قائلاً: "لا شيء مستحيلاً".

(فرانس برس)

المساهمون