في مثل هذا اليوم (الأول من سبتمبر/ أيلول) قبل 40 عاماً (1983)، أسقطت طائرة اعتراض سوفييتية من طراز سو-15 طائرة كورية جنوبية من طراز بوينغ 747، ما أسفر عن مقتل 269 شخصاً من الركاب وأفراد الطاقم، وسط تدهور العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والدول الغربية في حلقة أخرى من حلقات التوتر في حقبة الحرب الباردة.
في ذلك اليوم، كانت طائرة بوينغ التابعة للخطوط الجوية الكورية تنفذ الرحلة رقم "كال 007" من نيويورك إلى سيول مع محطة ترانزيت ليلية في مدينة أنكوريج في ولاية ألاسكا الأميركية. وكان القسم الأخير من الرحلة يمر فوق المياه الدولية من المحيط الهادئ، إلا أن الطائرة سرعان ما بدأت تنحرف عن مسارها بعد إقلاعها.
لأول مرة، اخترقت الطائرة المجال الجوي السوفييتي في محيط شبه جزيرة كامتشاتكا التي كانت الأجواء فوقها مغلقة أمام حركة الطائرات المدنية، نظراً لاحتضانها قواعد عسكرية وإجراء اختبارات صواريخ بها. وعلى الرغم من أن أربع مقاتلات من طراز ميغ-23 أقلعت لاعتراض بوينغ، إلا أن الطائرة تمكنت من مغادرة الأجواء السوفييتية باتجاه الأجواء فوق بحر أوخوتسك.
وفي وقت لاحق، اخترقت الطائرة الأجواء السوفييتية فوق جزيرة سخالين، ورافقتها سوـ15 لبعض الوقت. وبعد عدم تلقيها أي رد من الطيارين الكوريين وإطلاق عدة أعيرة تحذيرية، أطلقت الطائرة السوفييتية صاروخين باتجاه بوينغ أصاب أحدهما نظم التحكم بالقرب من ذيل الطائرة.
وبعد مرور 12 دقيقة، تحطمت الطائرة في مضيق لابيروز في محيط جزيرة مونيرون، ولقي جميع من كانوا على متنها مصرعهم من دون العثور على جثامين غالبيتهم، ليبقى لغز الطائرة مدفوناً في قاع البحر حتى اليوم. وبعد مرور أربعة عقود على واقعة إسقاط الطائرة الكورية الجنوبية، يعتبر رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة بليخانوف الاقتصادية في موسكو، أندريه كوشكين، ما جرى في ذلك اليوم فاجعة إنسانية حال التوتر الجيوسياسي السائد في ذلك الوقت دون تجنبها.
ويقول كوشكين في حديث لـ "العربي الجديد": "ما حدث في الأول من سبتمبر/ أيلول 1983 فاجعة راح ضحيتها ركاب طائرة مدنية نتيجة لعمل استفزازي نفذه الغرب، وما كان ينبغي أن تستجيب القيادة العسكرية السوفييتية له، ولكنها اتخذت قرار إسقاط الطائرة في ظروف ذروة التوتر بين موسكو والغرب في ذلك الوقت".
وعلى الرغم من تضارب الروايات حول الدوافع الحقيقية لاختراق "بوينغ" الأجواء السوفييتية، يميل الأستاذ الجامعي الروسي إلى رواية تنفيذها مهمة تجسسية، مضيفاً: "كان هذا عملاً تجسسياً مقصوداً، ومن المستبعد أن يكون الطاقم ذو خبرة الطيران الكبيرة قد انحرف بالطائرة عن مسارها عن طريق الخطأ، وما يعزز رواية التجسس هو مزامنة تحليق الطائرة مع قمر فيريت-دي وطائرة استطلاع أميركية".
تداعيات جيوسياسية كثيرة ترتبت على الواقعة في ظروف العلاقات المعقدة أصلاً بين الاتحاد السوفييتي والغرب في فترة الحرب الباردة. وحثت الولايات المتحدة الدول الأخرى على الكف عن التحليق فوق أراضي الاتحاد السوفييتي. وفي وقت وصف الرئيس الأميركي آنذاك، رونالد ريغان، الواقعة بأنها عمل يعكس "الهمجية والقسوة غير الإنسانية"، اتهم الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية رداً على ذلك بالتجسس.
ويرى كوشكين أن الإدانة الأميركية شديدة اللهجة لواقعة إسقاط الطائرة الكورية الجنوبية تكشف جانباً من المعايير الغربية المزدوجة، قائلاً: "في العام 1988، أسقطت الولايات المتحدة طائرة ركاب إيرانية من طراز إيرباص 300 في منطقة الخليج من دون أي داعٍ لذلك وحتى لم تعتذر عن الواقعة".
وبالعودة إلى الطائرة الكورية الجنوبية، ذكرت الرواية الرسمية السوفييتية حينها أن الطائرة المنتهِكة اخترقت المجال الجوي السوفييتي، وكانت تتعمد جمع بيانات استخباراتية وتنفذ مهمة استفزاز. وفي 1992، وهو العام التالي لعام تفكك الاتحاد السوفييتي، سُلم الصندوقان الأسودان للطائرة للمنظمة الدولية للطيران المدني (إيكاو) بقرار من أول رئيس لروسيا ما بعد السوفييتية، بوريس يلتسين، لتظهر التحقيقات أن الطائرة الكورية الجنوبية اخترقت الأجواء السوفييتية من دون قصد إثر خلل بالطيار الآلي أو خطأ الطاقم.
إلا أن طاقم المركز السوفييتي لإدارة التحليقات افترض أن الطائرة المخالفة كانت طائرة استطلاع أميركية من طراز "أر سي 135" المطورة من طائرة "بوينغ-707". واللافت أن كارثة "بوينغ-747" لم تكن أول حادثة بضلوع طائرة كورية جنوبية في أقصى شرق الاتحاد السوفييتي، إذ اخترقت طائرة أخرى تابعة للخطوط الجوية الكورية كانت متجهة من باريس إلى سيول عبر ألاسكا أيضاً الأجواء السوفييتية فوق شبه جزيرة كولسكي، وأرغمت على الهبوط في إبريل/ نيسان 1978.
وعلى الرغم من مرور عقود على فاجعة سبتمبر/ أيلول 1983 ودروسها، إلا أن العالم لم يخلُ من كوارث تتعرض لها طائرات مدنية في مناطق النزاعات المسلحة والتوترات الجيوسياسية، ولعل أشهر مثل هذه الحوادث في السنوات الأخيرة، تحطم الطائرة الماليزية شرق أوكرانيا في يوليو/ تموز 2014، وإسقاط طائرة أوكرانية بصاروخ إيراني بعيد إقلاعها من مطار طهران في يناير/ كانون الثاني 2020، راح ضحيتهما مئات المدنيين.