غسان أبو ستة: متى يرتوي العالم من دمنا؟

06 ديسمبر 2023
الطبيب والجرّاح الفلسطيني غسان أبو ستة (حسين بيضون)
+ الخط -

قال الطبيب والجرّاح الفلسطيني غسان أبو ستة، إنّ تدمير الاحتلال الإسرائيلي للمستشفيات والمراكز الصحية في الحرب على غزة جزء من خلق كارثة عامة ومُمنهجة بغية تفكيك كل مفاصل الحياة الفلسطينية، وجعل المكان غير قابل لأي شكل من أشكال البقاء.

غسان أبو ستة بمستشفى الشفاء

الطبيب الشهير في مجال جراحة التجميل والترميم، والذي يحمل الجنسية البريطانية وصل إلى مستشفى الشفاء يوم العاشر من أكتوبر/تشرين الأول مع فريق من منظمة "أطباء بلا حدود" وقضى فيه 43 يوماً عاين خلالها حرب الإبادة ساعة بساعة، والمجهود الخارق من قبل الطواقم الطبية والإسعاف والتمريض، وبإمكانات ضعيفة أمام هول الصواريخ والقنابل.

وفي محاضرة استضافها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية مساء أمس الثلاثاء بعنوان "تدمير القطاع الصحي في غزة: مواجهة الكارثة والتهجير"، قال أبو ستة إنّ استهداف القطاع الصحي بدأ منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة.

وهذا ما ترافق منذ السابع من أكتوبر مع سردية إسرائيلية تقضي بأن المستشفيات تخفي تحتها أنفاقاً لكتائب القسام وغرف سيطرة، وعليه، كما أضاف، تقرر بأن يكون المستشفى المعمداني أول اختبار لتجاوب المجتمع الدولي مع الاستهداف المتعمد والموجه للقطاع الصحي، عبر قبول سردية إسرائيل بأن صاروخاً للمقاومة هو الذي قتل 480 إنساناً دفعة واحدة.

وبدأت سلسلة لم تتوقف من تحطيم البنية الصحية التي لم تعد تثير الامتعاض الدولي، فها هي أربعة مستشفيات للأطفال استُهدفت مباشرة، فيما قال إنها عكست بوضوح عدم أنسنة وجود الطفل الذي لم يكن له أي نوع من الحماية الإسرائيلية، ثم تلا ذلك قصف مستشفى السرطان وباقي المنظومة الصحية.

ولدى حصار الاحتلال مستشفى الشفاء واقتحامه تناول أبو ستة الجزء الاستعراضي لقوات الاحتلال وهي تقطع أنابيب الأكسجين عن قسم الولادة، لرؤية الأطفال الخدج يموتون ببطء، كذلك الحال في ترك جثث الأطفال الخدج في مستشفى النصر متروكة علانية، إذ كان الهدف منه وضع الفلسطيني أمام هول المشهد وتوقع ما هو أسوأ.

تجربة بنيوية

الإيغال في الدم الفلسطيني مرسوم دون مواربة، كما يفصّله الطبيب عبر قتل أكثر من عشرين ألفاً وإصابة أكثر من 45 ألفاً معظمهم يحتاج إلى تدخل جراحي، وهؤلاء يراد لهم أن يموتوا ببطء أمام أهاليهم ويصبح ابتزازهم أسهل من أجل مغادرة القطاع ضمن سياسة التهجير التي تقوم على التهديد بالموت.

وبما أن محاضرة الطبيب شهادة حول الكارثة والتهجير، فقد أصر أبو ستة على أن اللجوء تجربة بنيوية في الهوية الفلسطينية المعاصرة، وأن التهديد بالموت بهدف التهجير، قوبل بمقاومة ترفض إعادة إنتاج الذل الذي خلفته النكبة.

غير أن المأساة التي يفرضها الفارق الفادح في موازين القوى والحرب وهي تجرب بفجور أسلحة دمار جديدة على المدنيين قابلتها في القطاع الصحي مجهودات خارقة من الطواقم الطبية والتمريض والإسعاف، وقد استشهد منهم أكثر من 280.

حبس الطبيب دمعته غير مرة وهو يروي شهادته على حرب الإبادة المعلنة، حين قال إنه بعد نفاد مواد التعقيم في مستشفيي الشفاء والمعمداني لجأ إلى صابون الجلي والخل، وبعين الطبيب الذي لا يملك الكثير أمام عدد هائل من المصابين، كانت الأولوية في العلاج تخضع لفرز اضطراري يسهم فيه أهالي الضحايا، كأن يفاضلوا بين جريح من أسرة أكبر عدداً، وآخر من أسرة قليلة العدد.

حرب بيني موريس

هذه الحرب سماها المحاضر "حرب بيني موريس الثانية" نسبة إلى المؤرخ الإسرائيلي الذي تبنى القول إن الغلطة الأساسية للصهيونية في عدم طردها الفلسطينيين مثلما فعل الرجل الأبيض في أميركا الشمالية، وإنه إذا لم تحل الأزمة الديمغرافية الفلسطينية فسيؤدي ذلك إلى هزيمة المشروع الصهيوني.

ولطبيب ذي خبرة سابقة في غزة أن يقرأ هذه الحرب من خلال الإصابات التي تمكن من فحصها. فهو يسترجع عدوان 2014 على غزة حيث كانت تباد عائلات عبر ضرب بنايات، إلا أن الحرب الراهنة استفحلت أكثر فاستهدفت بالمحو أحياء بأكملها.

ففي بداية الحرب استخدمت بشكل مفرط قنابل زنة ألف كيلو و1500 كيلو كانت تبيد ثلاثة أجيال من الأجداد والأبناء والأحفاد، ثم لاحظ الطبيب على أجساد المصابين حروقاً صعبة بنسبة تزيد على الخمسين في المائة من دون وجود شظايا أو كسور، ما يشير إلى استخدام قنابل مكونة من مواد مشتعلة.

ثم عاد الاحتلال إلى سابق عهده في القصف بالفوسفور الأبيض الذي يخترق الأجساد حتى العظام، وترافقت موجات الفوسفور كما يوضح مع دخول القوات البرية شمال القطاع في حي الكرامة ثم توسعت أكثر في مخيم الشاطئ.

تلاحم شعبي

وقدّم المحاضر تفاصيل غير مسبوقة تركها القصف على أجساد الفلسطينيين كالبتر على طريقة المقصلة وتسببه بصواريخ هيلفاير التي تطلقها المسيّرات فتتلقى أجساد الناس شظايا حديدية.

عالم الموت الذي يحاصر غزة، يواجه بمقاومة مستمرة ويومية نقلها لنا غسان أبو ستة في شهادته على التعاضد البشري حتى أن الناس يفتحون بيوتهم للغرباء ويحتضنون عائلات الجرحى، ومن ذلك التلاحم رد الفعل الشعبي في ضم أكثر من 120 طفلاً جريحاً كانوا الناجين الوحيدين من عائلات استشهد جميع ذويها وأقاربها من الدرجة الأولى.

وفي معرض حديثه عن أدوار المنظمات الدولية الصحية التي وصفها بأنها ذات ولاءات متناقضة، تساءل لماذا لا تكون لدينا منظمات صحية على غرار الصليب الأحمر الدولي وأطباء بلا حدود، ولماذا لا تضطلع النقابات الطبية العربية بهذه المهمة؟

ومثل هذه المنظمات لكن في الجانب الحقوقي، تحدث أبو ستة عن التقرير المنحاز الذي أصدرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" بخصوص قصف المستشفى المعمداني، وقال إنها لم تكلف نفسها الاتصال بمدير المستشفى الطبيب ماهر عياد وهو الذي تلقى مكالمة هاتفية من ضابط إسرائيلي ينذره بإخلائه، وتحمل المسؤولية في حال عدم الاستجابة، ولم تتواصل مع المواطنين.

واختصر المحاضر دور هذه المنظمات بوصف "البائس" وأنها تنفذ التوجهات السياسية للدول التي تدعمها، متسائلاً في السياق عن المجتمع الدولي برمته وهو يرى قتل 8 آلاف طفل، كيف قرر التخلي عن كل ما أنجزه من قوانين أعقبت الحرب العالمية الثانية؟ بما يعني وفق ما يستنتج أن أي حرب مقبلة ستكون مرعبة أكثر، بما أنها وجدت أساساً مقبولاً في هذه الحرب.

في يوم محاضرته قال أبو ستة إنه استيقظ صباحاً ليتابع المجزرة المستمرة، فسأل ذاته بعد قراءته خبر مشاركة طائرات استخبارية بريطانية بالمجهود الحربي في غزة: متى سيرتوي العالم من دمنا؟
 

المساهمون