في مدينة ميلة التي تبعد 490 كيلومتراً عن عاصمة الجزائر تجري العين الرومانية التي يطلق عليها اسم عين البلد قرب مسجد سيدي ابو المهاجر دينار، أول مسجد بني في شمال أفريقيا. ولم تتوقف المياه العذبة والطبيعية لهذه العين التاريخية منذ قرون، علماً أنها تأتي من أعلى جبل بني ياروت الذي يُحيط بالمدينة.
يعود تاريخ بناء عين البلد إلى القرن الأول ميلادياً، وتقع في المدينة العتيقة "ميلة القديمة"، ويصل إليها الزوار من مدخلين، يقع الأول في الناحية الشمالية للمدينة، وتحديداً على مسافة 200 متر من المدخل الأعلى للمدينة وسور المدينة اِلعتيقة الذي يشكّل الطريق إلى المتحف، ويمر بمحلات قديمة وجامع سيدي غانم، أول جامع بني في الجزائر.
أما المدخل الثاني فيصل إليه الزوار من الباب السفلي الذي يطلق عليه اسم باب البلد، علماً أن عين البلد تنخفض أكثر من ستة أمتار عن المستوى الحالي للمدينة العتيقة، ويتطلب الوصول إليها نزول 22 درجاً من الحجارة الملساء. وينتهي السلّم عند المنبع الذي يحتل الركن الجنوبي الشرقي من الساحة المبلطة، متكأً على جدار نصف دائري من الحجارة المصقولة المنتظمة والمتفاوتة الأبعاد.
وتأخذ العين شكل قبعة جندي فرنسي. وتذكر الأستاذة في علم الآثار إيمان بوحرود أن السلطات الفرنسية رمّمت العين الرومانية خلال الاحتلال. وتشير إلى أن واجهة المنبع تتجه نحو الشمال، وتتضمن فتحتين منحوتتين من الحجارة الكلسية الحمراء تؤديان وظيفة مصبّين للمياه، الأول ذات شكل شبه منحرف، والثاني اندثر ولـم يبقَ منه سوى فتحة في الجدار.
وتصب مياه العين في حوض مستطيل يتجاوز طوله مترين، منحوت من حجارة رخامية كلسية ذات لون زهري فاتح. وينقل الحوض المياه إلى قناة جانبية تحت أرضية، ومنها إلى منبع آخر خارج الأسوار يطلق عليه اسم عين الزروقِية. وهو ما تفسره الأستاذة بوحرود بأنه "جزء أصيل من الهندسة الرومانية التي تعتمد على نظام اكتشاف المياه وتوزيعها بعدل وتوازن يسمح لكل أطراف المدينة ومعالمها الحيوية بالتزود بنظام الاستفادة بالماء والسقي".
وعين البلد معروفة وذات شعبية وسط سكان المدينة. ويتذكر رئيس جمعية أصدقاء ميلة القديمة البروفيسور عبد العزيز السقني الذي ولد وعاش طفولته في المدينة العتيقة أن الأطفال كانوا يلعبون بملء المياه العذب من العين الرومانية التي تتوسط المدينة، ويقول لـ"العربي الجديد": "كانت هذه العين تموّن أكثر من ستة آلاف شخص كانوا يقطنون في ميلة القديمة سابقاً، لأنها منبع مائي طبيعي عذب من جوف الأرض في المدينة العتيقة". ويُخبر أن ساحة العين الرومانية كانت مكاناً لتجمّع النساء من أجل غسل الصوف خصوصاً في فصل الصيف والمناسبات مثل الأعراس، وأن السكان كانوا يقولون إن من يشرب من مياهها العذبة سيعود إليها مرة ثانية.
وفيما جرى تسجيل عين البلد، بموجب قرار حكومي صدر عام 2012، ضمن قائمة الممتلكات الثقافية المحمية لولاية ميلة، يطالب البروفيسور السقني باعتماد أسس علمية لحماية تراث المدينة العتيقة، مشيراً إلى أن الجمعية تنظم منذ 17 عاماً ملتقى سنوياً يتعلق بحماية عمران المدينة العتيقة والمواقع الأثرية في الولاية، خاصة بعد بدء ترميم جامع سيدي غانم، أول مسجد في الجزائر، وجمع مختلف الأعمال والكتابات المتعلقة بالمدينة القديمة من الأرشيف داخل الوطن وخارجه.
وقرب المدينة العتيقة وخارج أسوارها عينٌ أخرى تشبه عين البلد يُطلق عليها اسم عين كشكين وعين الصياح، وكلاهما لا يزالان يصبان المياه.
وتحمل ميلة أو ميلاف التسمية الرومانية التي تعني مدينة الألف منبع أو الألف مصدر للمياه، لأنها منطقة تتربع على عيون كثيرة حملت مواقعها أيضاً أسماء مدن مجاورة لمدينة ميلة القديمة، منها عين وادي النجاء وعين التين وعين الكبيرة وعين جبل مارشو وعين سيدي خليفة وغيرها من العيون التي لا تزال تروي عطش السكان من المياه العذبة الطبيعية، ما جعلها بعد قرون من الزمن تحمل لقب عاصمة المياه في الجزائر، إذ تحتضن سد بني هارون، الأكبر في البلاد وأفريقيا، ويقع في المخرج الجنوبي للمدينة التي يربط جسر معلق بينها وبين ولاية جيجل.
ويستفيد من مياه سد بني هارون سكان خمس ولايات شرقي الجزائر، علماً أن مدينة ميلة زراعية بامتياز لأنها تحتوي على البساتين، وتوفر أغذية القمح والشعير والعنب والتفاح والزيتون.
وتاريخياً، حملت مدينة ميلة تسميات تنوعت بحسب الحضارات المختلفة، وبينها ميليوس خلال الفترة البيزنطية، ثم ِملوفيثانا، وكلاهما يعني مدينة الجمال، ثم أطلق عليها الاسم الروماني مِيلاف أو ميل أف الذي يعني ألف منبع ومنبع، علماً ان وجود الرومان واستقرارهم في أي مكان كان يرتبط باكتشاف مصادر المياه ومنابعه، الغزيرة، وهو ما وفرته ميلة التي تحتضن منابع مياه كثيرة في جبل مارشو الذي يقع في شمالها.
كما سُميت المدينة أملو التي تعني الظلال بالأمازيغية. وكل الكلمات تتعلق بالري والزراعة والحياة والماء، أما الفاتحون الإسلاميون فأطلقوا على المدينة اسم ملاح بسبب جمالها الطبيعي وجبالها وهوائها النقي، ثم استقرت تسميتها على ميلة التي تعرف بها اليوم.
وظلت معالم المدينة منسية أو تصارع النسيان رغم أن حضارات مختلفة تعاقبت عليها. وهي حالياً مدينة مليئة بالأسرار والتاريخ التي تشهد على فترات زمنية، أبرزها مسجد سيدي غانم، الذي ما زال يصارع الزمن بعدما شيّدت القوات الفرنسية خلال فترة الاستعمار ثكنة عسكرية إلى جانبه، وحوّلت بعض معالمه إلى بناء مغطى من أجل إخفاء أقواسه إثر هدم مئذنته.
ويصف الباحث في علوم التاريخ والآثار بجامعة قسنطينة، علي بن حمادة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، ميلة بأنها "عاصمة الفتوحات الإسلامية التي عرفتها الجزائر". ويوضح أن القائد أبو المهاجر دينار دخل المدينة خلال غزوة التابعي الجليل عقبة بن نافع شرقي الجزائر، من أجل نشر الإسلام، وشيّد مسجد سيدي غانم الأول في الجزائر عام 59 للهجرة الموافق 678 ميلادية.
ويقول بن حمادة إن "أبو المهاجر دينار مكث في ميلة سنتين، ثم بقي مسجد سيدي غانم شاهداً على رمزية الحضارة الإسلامية وقيمتها الثقافية والدينية".