في ليلة 12 يناير/ كانون الثاني من كل عام، تقيم عائلة غزران التي تقطن في منطقة باتنة التي تقع في أعالي جبال الأوراس شرقي الجزائر احتفالاً بحلول السنة الأمازيغية ومعانيها التي تجسد الروابط القوية وذات الأهمية الكبيرة بالأرض، وتشكل مناسبة لإطلاق عام جديد لممارسات الحراثة ونثر البذور في الأرض والشروع في انتظار نمو المحاصيل، مع الحرص على استقبال السنة الجديدة بأحلى صور الاحتفالات، وأشهى الأطباق التي تحضر من مكونات زراعية.
تقول كاهنة غزران، البالغة 35 من العمر، لـ"العربي الجديد"، إن "الناير" عيد بالنسبة إلى غالبية الجزائريين، وتحتفل عائلتنا به جيلاً بعد جيل، في تقليد توارثه أفرادها أباً عن جد. وهو يعني بالنسبة لنا العمل وانتظار الخير والحصاد الوفير. ويسمي البعض العيد بـ"إض الناير" أو "ثابورث أوسقاس" أو "أمنزو يناير"، وهذه تسميات أمازيغية تعني باب السنة. ورغم اختلاف هذه التسميات ارتبط الاحتفال ببداية السنة الأمازيغية دائماً بأصل وجود الإنسان، وهو الأرض".
وتطلق طقوس "عيد الناير" السنة الفلاحية، حيث يتفاءل الأمازيغ بتساقط الأمطار والثلوج كي تعم البركة وتكون السنة خصبة، وتتعاظم أمنياتهم بعام الخير ومحاصيل وافرة.
تقديس الأرض
ويرمز الاحتفال إلى الأمل بالخير وبركة موسم الفلاحة، ويقول عمار سوامي (42 عاماً) الذي يسكن في منطقة سيدي عيش بولاية بجاية في منطقة القبائل الصغرى وسط الجزائر، لـ"العربي الجديد"، إن الصورة العالقة للعيد في أذهان سكان المناطق الأمازيغية في الجزائر هي تقديس الأرض وزرعها. ولكل عرش أو قبيلة أو عائلة كبيرة أرضها التي تضم مساحات شاسعة من أشجار الزيتون والقمح والتين الشوكي والخضار والبطاطا والفول والعنب، ما يعني أنها مصدر لرزقهم من نتاج واستهلاك وبيع وتجارة. وتقديس الأرض مسألة متوارثة بين الأجداد والآباء والأحفاد الذين يحافظون عليها. ويعودون إليها حتى في حال تغرّبهم عنها ومغادرتها، وهذا أمر طبيعي، لحراثتها وزرعها واستغلال ثمارها".
"عشاء يناير"
وتختار الأسر الجزائرية في هذه المناسبة طرقاً كثيرة للتعبير عن الفرح والسعادة بقدوم هذه الأيام، ومنها عادات تشمل إعداد مأكولات تطهى في هذا اليوم تحديداً، وتتشكل مكوناتها غالباً من المحاصيل الزراعية من أجل تجهيز مآدب ما يُطلق عليه بالأمازيغية اسم "أيمنسي نيناير" أو "عشاء يناير". وتحضر العائلات على الموائد أطباقاً شهية من طحين القمح والخضر والحبوب والفواكه الجافة والزبدة الطبيعية والعسل.
أطباق
وغالباً ما يقدم طبق "الكسكسي" في ليلة الاحتفال بهذه المناسبة، إذ يحضر بحسب ما تقوله فاطمة (62 سنة) مع حبات الكسكسي التي تطهى بالبخار، كما يحضر مرق الكسكسي بمختلف الخضار والفول والحمص، وطبق "العصيدة" الذي يحتوي على طحين القمح بالزبدة و"أوفتيان"، وهو عبارة عن حساء من الحمص والقمح والفول وحبوب جافة أخرى تعتبر بدورها إحدى علامات خصوبة ووفرة محاصيل زراعية مختلفة. كما تعرف بعض المناطق مثل ميلة وتاحمامات والحامة شرقي العاصمة الجزائرية بطهي "الشرشم" عبر غلي العدس والحمص والقمح في الماء والملح تمهيداً لتوزيعه على العائلة والجيران ليعم الخير، إضافة إلى طهي الفطائر بالعسل للتفاؤل بعام سعيد مقبل.
وتذبح بعض العائلات في المناطق الأمازيغية في شرشال والتنس وبني حواء غربي العاصمة الجزائرية ديوكاً رومية أمام عتبات المنازل، أي تجري إراقة الدم أمام مداخل البيوت، في عادة تسمى "أسفال" باللغة الأمازيغية، وتصفها فاطمة بأنها "بين الطقوس التي ما زالت عائلات عدة تمارسها مع بدء التقويم الأمازيغي بهدف إبعاد الشرّ وجلب الخير ومختلف الأمنيات المفرحة".
وهكذا تعتبر المناسبة فرصة لاجتماع العائلة والأقارب حول مأدبة العشاء في ليلة الاحتفال بـ"الناير". ويقول حكيم فراطسة الذي يهتم بالتراث الأمازيغي لـ"العربي الجديد": "إضافة إلى الأطباق المتنوعة، تحضر غالبية العائلات حساءً ساخناً يتضمن سبعة أنواع من الحبوب بينها القمح والذرة والعدس والفول. والمناسبة تشكل فرصة لصلة الرحم وإضفاء جو من الفرح والسعادة تترافق مع ارتداء النساء ألبسة تقليدية وقيامهن بضرب الدف وإنشاد أغاني يناير ترحيبا بقدومه".
تاريخ الانتصار
ويعتمد الأمازيغ لعقود طويلة على التقويم الفلاحي لزراعة أراضيهم وغرسها وسقيها، إذ تتم عبر التعاون والتكافل الاجتماعي بين العائلات في القرى والمداشر. وهم يهنئون بعضهم البعض بعبارة "أسقاس أمغاز" أو عام سعيد.
وتأخذ هذه المناسبة بعداً وسياقاً تاريخيين. وتقول المتخصصة في الثقافة الشعبية سعيدة صيودة من جامعة الجزائر، في حديثها لـ"العربي الجديد": "جرى تأريخ بداية السنة الأمازيغية في يوم انتصار الملك البربري أو الأمازيغي شاشناق على الملك رمسيس الثالث من أسرة الفراعنة بمصر، وذلك عام 950 قبل الميلاد، خلال معركة شهدتها منطقة بني سنوس قرب ولاية تلمسان أقصى غربي الجزائر. من هنا يأخذ الاحتفال بالسنة الأمازيغية منحى أعمق في منطقة بني سنوس تحديداً، ويطلق عليه مهرجان آيراذ أو احتفالات الأسد، ويتضمن مجموعة من العادات والطقوس التي تستمر أياماً في الشهر الأول من العام، وتتجلى فيها العلاقة بين الإنسان والأرض والطبيعة".
ويتلخص المهرجان في ارتداء شخصين زيين تنكريين مصنوعين من الجلد وأغصان الأشجار يمثلان دوري اللبؤة الحامل والأسد حيث تضع اللبؤة صغيرها تحت عين الأسد، في صورة رمزية لبداية حياة جديدة.
أيضاً يضع الأمازيغ في احتفالاتهم الأعشاب الخضراء فوق أسطح المنازل تجسيداً لمشهد يرمز إلى الطبيعة والنبات وانبعاث الحياة. كما تعكس الاحتفالات البعد الاجتماعي للعادات عبر تعظيم التكافل الاجتماعي بين الناس، وتقديم الطعام والمأكولات واللحوم للفقراء والمساكين.
اليوم الرسمي
ومنذ عام 2018 أصبح تاريخ 12 يناير/ كانون الثاني يوماً رسمياً في الجزائر للاحتفال بالسنة الأمازيغية، باعتبارها هوية وتاريخ وأصالة. وتقام احتفالات شعبية ورسمية في عموم البلاد، وتختار السلطات كل عام منطقة لإقامة الاحتفالات الرسمية، وهي ستجري هذا العام في منطقة غرداية (وسط) تحت شعار "يناير يجمعنا في جزائر واحدة موحدة". وسيظهر العمق التاريخي للاحتفالات من خلال تقديم عروض شعبية وفنية في الشارع، وتنظيم معارض تظهر التراث العريق والمهارات المحلية، وندوات علمية حول الثقافة الأمازيغية، كما ستشهد تسليم جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة الأمازيغية في نسختها الثالثة.