لم يمنح العدوان الإسرائيلي عهد طه بسيسو (18 سنة) فرصة تحقيق حلمها في دراسة الطب الجنائي بجامعة الأزهر في غزة، بعد اجتيازها الثانوية العامة قبل أشهر قليلة، فبينما كانت تستعد لعامها الدراسي الأول بكل شغف، بدأ العدوان.
في أتون الحرب المستعرة، تعرض منزل عائلة بسيسو للاستهداف بقذيفة دبابة إسرائيلية، لتصاب عهد في قدميها، وتجد نفسها ممددة على طاولة الطعام داخل منزلها لإجراء عملية بتر لساقها اليمنى بأدوات المطبخ، فالطواقم الطبية لم تتمكن من الوصول إلى المنزل بسبب فرض الاحتلال الحصار على المنطقة.
نزحت عائلة بسيسو خلال أسابيع الحرب الأولى من منزلها في شارع اللبابيدي بمدينة غزة، بعد أن تعرضت الأحياء السكنية للقصف العشوائي، وتوجه أفراد الأسرة إلى منزل الجد في حي الزيتون، فمكثوا هناك لعدة أيام، ثم تعرضت المنطقة للقصف المدفعي، ما أدى لاستشهاد خالتها وعدد من أبنائها، فنزحت العائلة مجدداً إلى مستشفى الخدمة العامة في شارع الثلاثيني، وفي يوم النزوح الثالث، قصف الاحتلال المستشفى، وأصيب عدد كبير من النازحين، فاضطرت العائلة للعودة إلى منزلها.
لم تمض على العودة سوى أيام قليلة، حتى توغلت قوات الاحتلال في المنطقة، وفرضت حصاراً مشدداً على السكان لمدة أربعة أيام، عانت فيها الأسرة من الجوع والعطش، وقرروا جميعاً البقاء في الطابق الأرضي كإجراء احترازي.
في صباح يوم الثلاثاء 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، صعد بعض أفراد العائلة إلى الطابق الرابع على أمل إيجاد شبكة اتصال لطمأنة والدهم المغترب، وبينما كانوا في غرفة واحدة، باغتتهم قذيفة دبابة إسرائيلية كانت تتمركز على مشارف المنطقة، ما أدى إلى تهشيم ساق عهد اليمنى، وإصابة أمها وأختها الصغرى البالغة 12 سنة.
حاولت العائلة التواصل مع الطواقم الطبية للحضور لكن من دون جدوى، إذ لم تكن الاتصالات متاحة، كما أن جيش الاحتلال لا يسمح لطواقم الإسعاف والدفاع المدني بالوصول إلى المنطقة. لحسن حظ عهد أن عمها طبيب جراحة العظام بمجمع الشفاء، هاني بسيسو، كان موجوداً في المنزل، فأجرى لها عملية بدائية لبتر الساق، وعمل على وقف النزيف.
لم يكن الدكتور هاني يملك أية معدات طبية، فقام بنقل ابنة أخيه إلى الطابق السفلي، ومددها على طاولة الطعام، ولجأ إلى أدوات المطبخ المنزلية لاستخدامها في إجراء الجراحة، وقد استمرت العملية لعدة ساعات من دون تخدير، لكنه تمكن في النهاية من وقف النزيف.
كانت عهد تتلوى من الألم، وجدران المنزل تضج بصراخها، ولم يحمها إغماؤها المتقطع من شدة الوجع، إذ كانت تشعر كأنها في جلسة تعذيب، وتمنت خلال ذلك لو أنها استشهدت.
في اليوم التالي، انسحبت قوات الاحتلال من المنطقة، فتم نقل عهد إلى مقر جمعية أصدقاء المريض في مدينة غزة، وهي مؤسسة طبية خاصة، وهناك أُجريت لها إسعافات أولية، وتم تضميد الجرح، وإخراج الشظايا المنتشرة في أنحاء جسدها. لكنها لا تزال في حاجة إلى عناية طبية عاجلة كي لا تتفاقم الإصابة.
يقول والدها طه بسيسو لـ"العربي الجديد": "ابنتي لم تستكمل العلاج بسبب نقص الأدوية والمعدات في المؤسسات الطبية، فجيش الاحتلال يحظر وصول الإمدادات الطبية إلى مستشفيات مدينة غزة والشمال ضمن سياسة ممنهجة لتهجير السكان باتجاه الجنوب. عهد تعاني من إصابة خطيرة في ساقها اليسرى، وفي حال لم تحصل على العلاج اللازم، سيضطر الأطباء إلى بترها أيضاً".
ويوضح أنه غادر قطاع غزة قبل سنوات من أجل توفير حياة كريمة لأبنائه، وحين اندلعت الحرب شعر بخوف شديد، لكن كان يطمئنه استمرار عائلته بالتواصل معه كلما أتيحت لهم الفرصة. ويضيف: "في يوم استهداف المنزل، كنت أنتظر اتصالهم في التاسعة صباحاً، لكنهم لم يتصلوا، فشعرت بالقلق، خصوصاً وأن الأخبار التي تأتي من هناك تفيد باستهداف المنطقة. بعد ثلاث ساعات من حبس الأنفاس، تلقيت رسالة من شقيقي يخبرني فيها بأن قذيفة دبابة استهدفت المنزل، وأن هناك عددا كبيرا من الإصابات، وفي رسالة أخرى، تلقيت صورة عهد بعد بترت ساقها اليمنى، وعلمت أنهم محاصرون في المنزل، ولا تستطيع الطواقم الطبية الوصول إليهم، وقد أمضوا يوماً كاملاً غارقين في دمائهم".
يتابع: "أشعر بعجز كامل لأنني لست معهم، ولا أستطيع أن أضم ابنتي إلى صدري. عهد فتاة حالمة هادئة، وقد احتفلنا معاً قبل أشهر قليلة بتفوقها في الثانوية العامة، وقد اختارت دراسة الطب الجنائي لتحقق حلماً لطالما راودها، وهي ممددة الآن تنتظر بارقة أمل لاستكمال علاجها في الخارج. آمل أن أتمكن من مساعدتها على ذلك، فما زال للحلم بقية".