يتعمّق الجدل حول العنصرية في ألمانيا مع تعرّض أفراد من غير العرق الأبيض لمضايقات واضحة وتمييز وعنف في حوادث تقع في الحياة اليومية وميادين العمل، وتشمل أيضاً حالات التقدم لشغل وظائف أو الشكاوى التي تتعامل معها الشرطة في إطار القانون، ما استدعى رفع الضحايا الصوت ضد التصرفات غير الأخلاقية والسلوك غير الإنساني ضدهم، مع مطالبتهم باعتماد الشرطة آليات مستقلة في التحقيقات، وإلزام أجهزة الأمن بالخضوع لتدريبات خاصة بمكافحة العنصرية، بعدما أكدت إحصاءات تزايد الأشخاص الذين يتبنون أفكاراً عنصرية واضحة ويظهرون كراهية علنية للأجانب واللاجئين، خصوصاً في شرق البلاد.
"اسبق رعاة الإبل"
في آخر الحوادث العنصرية البارزة، أوقف الاتحاد الألماني للدراجات الهوائية مديره الرياضي، باتريك موستر، لاستخدامه ألفاظاً عنصرية خلال تعليقه على منافسات اللعبة خلال دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة في طوكيو، إذ قال خلال محاولته تشجيع مواطنه الدراج نيكياس ارنت، في أثناء استراحة شرب الماء، على ملاحقة منافسه الجزائري عز الدين لعقاب: "اسبق رعاة الإبل. تجاوزهم".
واعتذر موستر لاحقاً عن العبارات العنصرية، واعترف بأنه ارتكب "خطأً فادحاً وبأن الكلمات خذلته وأساء اختيارها". لكن الاتحاد الألماني للرياضات الأولمبية استغنى عن خدماته "لأنه انتهك القيم الأولمبية، فيما يساند الاتحاد التسامح واللعب النظيف".
وفي السياق، نشرت وسائل إعلام تقارير عن حالات أخرى مرتبطة بالعنصرية، بينها تعرض لاعبي كرة قدم ذوي أصول أفريقية في الدوري (البوندسليغا) لكلام سيئ ونابٍ وعنصري من الجمهور، بسبب لون بشرتهم، وبينهم لاعب فريق بروسيا دورتموند الكاميروني يوسوفا موكوكو.
وتقول أوساط متابعة للشأن الرياضي في ألمانيا إن "هناك صعوبة في الاعتماد على حكام من أصول مهاجرة لإدارة مباريات كرة القدم، خصوصاً من أصحاب البشرة السمراء خشية تعرضهم لإهانات من الجمهور، ما قد يؤدي إلى تعليق مباريات أو إيقافها نهائياً، وينسف بالتالي جداول المنافسات، ويكبد الأجهزة والمؤسسات المعنية الكثير من التعب والتحقيقات والتكاليف المادية".
ضد القيّم الألمانية
على صعيد آخر، يبدي أجانب مقيمون، وخصوصاً لاجئين، استياءهم من الذرائع غير المنطقية التي يعطيها مالكو العقارات لرفضهم تأجير شقق لهم، وبينها أن عدد أفراد العائلة كبير، فيما لا يتردد بعض المالكين في التعبير عن عدم رغبتهم في تأجير الأجانب، ما ينمّ عن كراهية كبيرة أو أسس عريقة أو ثقافية.
وكشفت صحيفة "تاغس شبيغل" أخيراً أن شرطة العاصمة برلين تحقق في وجود تصريحات عنصرية وتحريض على الكراهية في صفوفها، بعد إبلاغ أفراد في صفوفها عن استخدام زميلين لهم برتبة ضابط، خلال تنفيذ دورية، عبارات تضمنت أنماط تعبير عنصرية وأخرى مناهضة للدستور. وتنطلق هذه التحقيقات من حقيقة تعارض العبارات بالكامل مع قيم التسامح الألمانية، ومهمات ضباط الشرطة وواجباتهم.
وكشف موقع "روندفونك برلين براندنبورغ" أخيراً أن شركة للتدريب المهني في مجال الهندسة المدنية رفضت شاباً بسبب انتمائه الديني، وردّت عليه بأن التعاون مع مسلم ملتزم أمر غير مرغوب فيه، ما يؤكد الاستناد إلى أسس عنصرية، رغم أن الشركة أشارت لاحقاً الى أن قدرات متقدم آخر تلائم أكثر طبيعة العمل.
وأورد الموقع أن "المدير التنفيذي للشركة نفى انتهاكه القانون العام للمساواة في المعاملة، وعلاقة ديانة المرشح بالقرار المتخذ"، فيما علّقت شرطة براندبورغ أن "الشخص المعني يستطيع الإبلاغ عن الإهانة والرفض الذي تلقاه بسبب ديانته"، علماً أن القانون العام للمساواة في المعاملة دخل قيد التنفيذ بدءاً من أغسطس/ آب 2006، وهدفه حماية الموظفين من التمييز أو حرمانهم حق الإفادة من فرصة عمل، وتطبق أحكامه بالكامل بمجرد نشر الإعلان عن الوظيفة، مع التركيز على منع التمييز على أساس الأصل والعرق والجنس والمعتقد والإعاقة والسن والتوجه الجنسي. وقد أنشئت في الولايات مكاتب حكومية تحمل اسم مكاتب تكافؤ الفرص لمناهضة التمييز.
حلّ الكاميرات
إلى ذلك، نقلت شبكة "ايه آر دي" الإخبارية عن دراسة أجراها الباحث في علم الجريمة بجامعة بوخوم، توبياس زينغلنشتاين، أن "مقابلات أجريت مع حوالى 3400 شخص عبر الإنترنت و17 خبيراً بمكافحة حالات العنف غير القانوني في مراكز الشرطة، أظهرت أن الأشخاص غير البيض، أي من أصول مهاجرة، تعرضوا لتمييز متكرر من أشخاص من العرق الأبيض".
وأفادت الدراسة بأن "المحامي بلييز المرابيت لاحظ خلال ممارسته عمله مع موكليه الذين اعتقلتهم الشرطة وجود تمييز وقلة احترام وفقدان غير مبرر لضوابط التصرف اللائق معهم، علماً أن الضباط يصرّون على اعتبار سلوكهم غير تمييزي".
وكشفت دراسة أخرى أن "الأشخاص الملونين حسّاسون للغاية. وفي حال حدوث نزاع يصبح موقفهم صعباً عادة". واعتبر المرابيت أن "حل هذه المشكلة يتمثل بإلزام الضباط وضع كاميرا الجسد على بزاتهم من أجل تسجيل الوقائع، وأن يلتزم الموظفون المدنيون حمل أرقام الخدمة علناً، لأن العديد من حالات عنف الشرطة المرتكبة بدوافع عنصرية لا تجري متابعتها، علماً أن نسبة 2 في المائة فقط من القضايا الجنائية ضد تهم العنف المرتبطة بالشرطة تسفر عن مذكرة جنائية أو محاضر اتهام، وهذه نسبة صادمة جداً. من هنا ضرورة اعتماد وسائل أفضل لإثبات الوقائع، وأفضلها الكاميرا المثبتة في البزات".
من جهتها، أشارت الباحثة في علم الاجتماع، والمحاضرة في أكاديمية الشرطة التابعة لولاية سكسونيا السفلى، استريد ياكوبسن، أنه "يجب فعل الكثير. والمشكلة الهيكلية لا تعني أن الشرطة تتعمد التصرف بطريقة تمييزية".
مقترحات حكومية غامضة
وبعدما بات التمييز العنصري واقعاً يومياً، أشارت منظمة العفو الدولية في ألمانيا إلى أن حزمة الإجراءات التي قررت الحكومة الاتحادية تنفيذها نهاية عام 2020 "تحمل إشارات مهمة ومناهج جيدة لمكافحة العنصرية، لكنها تتضمن أيضاً اقتراحات غامضة جداً، رغم أنها تتصدى لمحاربة العنصرية والتطرف اليميني".
واعتبرت المنظمة أيضاً أن رصد "السلطات أكثر من مليار يورو حتى عام 2024 لتطبيق حزمة الإجراءات قد لا يكفي لتأمين فعالية تنفيذها على أرض الواقع".
ووضعت الحزمة وزارات عدة بالتعاون مع ممثلين عن المجتمع المدني، وشملت مخططات لتعزيز أعمال الوقاية المكثفة، وصلاحيات السلطات الأمنية الممنوحة للأجهزة، وتطبيق قوانين جنائية أكثر صرامة، وتقديم مساعدة أفضل للمتضررين، وتبادل أوثق للمعلومات عن الوقائع والانتهاكات مع المجتمع المدني، من أجل وضع استراتيجيات أفضل وأكثر فعالية للتصدي للمخالفات.
مسح علمي شفاف
في السياق، ترى الخبيرة في مناهضة العنصرية بمنظمة العفو الدولية في ألمانيا ماريا شارلاو، أن "المسؤولين يجب أن يبدأوا أولاً بالسلطات الأمنية". وتوضح أنّ "من الصواب النظر الى المجتمع كله، خصوصاً أن الحكومة الاتحادية تجد صعوبة في الاعتراف بالعنصرية، ليس فقط كسلوك فردي، لكن كمشكلة هيكلية موجودة خصوصاً لدى أجهزة الأمن".
وتعتبر أن "التخطيط المعدّ له للمتضررين من العنف العنصري وتأمين حماية للضحايا والمزيد من الدعم لمنظمات المجتمع المدني التي تكافح العنصرية يعطي بعض الأمل. لكن حزمة الإجراءات لا تمثل أيضاً أي تقدم في التعامل مع العناصر الهيكلية، وتلك المتمثلة أيضاً بالميول المتطرفة في صفوف الشرطة".
تضيف: "تدعو منظمة العفو إلى مناهضة إلزامية إخضاع جميع الأجهزة الأمنية لدورات تدريب حول العنصرية. زيادة التوعية ضد العنصرية في الخدمة العامة وضمن مجموعة من التدابير نهج جيد، لكن في حالات عدم وجود أهداف محددة تكمن المخاطر في عدم تحقيق أي شيء".
ومن وجهة نظر المنظمة، وفق ما ذكرت على موقعها، هناك حاجة ماسة إلى إجراء مسح علمي شفاف ومستقل لمدى انتشار المواقف والسلوكيات العنصرية واليمينية المتطرفة، وبالأخص في صفوف الشرطة.