يرجع متابعون عراقيون تزايد المشكلات العائلية والقبلية، ووقائع الشجار والانتقام والانتحار المتكررة، إلى تعدد الأزمات التي يعاني منها المجتمع، سواء كانت اقتصادية أو أمنية أو سياسية.
تسجل السلطات العراقية ارتكاب جرائم مجتمعية بشكل يومي في أغلب محافظات البلاد. وفي ظل غياب المعالجات الرسمية لتلك الظاهرة الخطيرة، يرى مراقبون أن هناك تنصلاً حكومياً من المسؤولية تشترك فيه كافة المؤسسات، ما يدفع باتجاه مزيد من انحدار الأوضاع في المجتمع. وتسجل محافظات عدة، خصوصاً المحافظات الجنوبية، جرائم يومية تبدأ بشكل يمكن تجاوزه في الأوضاع الطبيعية، كأن يكون هناك خلاف بين شخصين على شأن حياتي، فيتطور من دون سبب إلى استعمال السلاح الناري، وأحياناً تتحول مشكلة عادية على إرث أو فسخ خطوبة أو طلاق إلى صراع عشائري دموي.
ويقول مسؤول في الشرطة المجتمعية العراقية، لـ"العربي الجديد"، إن "البلاد تسجل بشكل شبه يومي جرائم متعددة في أغلب المحافظات، والنصيب الأكبر من تلك الجرائم يقع في العاصمة بغداد، وفي مدن الوسط والجنوب. الشهر الفائت شهد تسجيل 113 جريمة قتل، أو محاولة قتل، وأكثرها ارتكبت داخل العائلة أو العشيرة، أو بين الجيران، وبعضها تورطت في تنفيذها نساء، وهذا شيء لم يعهده العراق سابقاً. كثير من الجناة يسلمون أنفسهم إلى الشرطة، كما يتم اعتقال آخرين وإحالتهم إلى القضاء لمحاسبتهم على جرائمهم".
ويقر سياسيون عراقيون بأن الأزمات القائمة انعكست على الحالة النفسية للمواطنين. يقول النائب السابق صادق المحنا، لـ"العربي الجديد"، إن "العراق تعرّض لمشكلات كبيرة خلال العقود الأخيرة، بعد أزمات وحروب متعددة أثرت على نفسية المواطنين، وبات التفكك الاجتماعي واضحاً، وهناك جرائم كثيرة ترتكب يومياً، ومن أسبابها الصراع الدموي، وتفاقم الفقر، وسوء الخدمات، وتردي الأوضاع الأمنية، وغيرها من الأزمات التي انعكست على يوميات الأسر العراقية".
يضيف المحنا أن "ضعف الثقافة القانونية، وسيطرة الفصائل على الحكومة، لهما انعكاسات سلبية على المجتمع، فالحكومة لا تستطيع أن تمد نفوذها على عموم البلاد، مما يضعف سلطة الدولة، ويشعر المواطن بالتوتر والخوف، ويتسبب في زيادة الجرائم، ونحتاج إلى دراسة يقوم بها علماء الاجتماع للبحث في أسباب معاناة الشعب. فأسباب الجرائم معروفة، لكننا نحتاج إلى معرفة العلاج، فالجرائم أصبحت غريبة جداً، ومتنوعة". ويوضح أن "دور منظمات المجتمع المدني العراقية في هذا الملف غير قائم، وبعضها وجدت لتحقيق الأرباح فقط، ولم تقم بأي دور في المهام المفروض أن تقوم بها".
وتحذّر النائبة السابقة شروق العبايجي، من تزايد خطير في مظاهر العنف في المجتمع، والتي تصل إلى حد القتل بطرق تتزايد بشاعتها بشكل متواصل، مؤكدة لـ"العربي الجديد"، أن "هناك عوامل مجتمعية كثيرة تحفّز على العنف، خصوصاً العنف الأسري، ولاشك أن العامل الاقتصادي له انعكاسات على الحالة النفسية والعصبية للأشخاص، والضغوط المتزايدة تؤثر على زيادة نسب الجريمة في المجتمع". وتشير العبايجي إلى أن "الإفلات من العقاب من ضمن العوامل التي تساهم في تفشي العنف المجتمعي، ومهمة الحكومة باتت تنحصر في الدور القضائي لمحاسبة الجناة، في حين يجب على الحكومة أن توجد الحلول التي تمنع انتشار العنف، أو تحول دون اللجوء إليه، وهناك وسائل متعددة لمساعدة أي شخص يتعرض لمشاكل أو ضغوط، وربما نحتاج إلى جهات حكومية تقدم الاستشارات للمواطن، وتدعمه في إيجاد حلول لأزماته". وتؤكد "أهمية أن يكون القضاء منزهاً عن التأثيرات الأخرى، كما ينبغي ترسيخ دوره، كون العقوبات إحدى السبل الرئيسية لمكافحة الجرائم، ونحتاج أيضاً إلى جهات مجتمعية أخرى تدعم الجهاز القضائي في تأدية دوره".
ويؤكد متخصصون في الأمراض النفسية والعقلية أن غالبية الجرائم المجتمعية المنتشرة في البلاد ناتجة عن أزمات نفسية، لكنهم يرون أيضاً أن العلاج النفسي وحده غير كاف للحد من تلك الجرائم. يقول الطبيب باسل العلواني، إن "حالات كثيرة باتت تتوافد على عيادات الأطباء المتخصصين في الأمراض النفسية والعقلية، وأحياناً تكون الحالات مستعصية، أو متفاقمة"، موضحًا لـ"العربي الجديد": "كأطباء، نحاول معالجة الحالات، لكننا نستشف من خلال جلسات العلاج، أن أغلبها وصل إلى أوضاع خطيرة تدفع نحو ارتكاب الجرائم، والغالبية ناتجة عن أزمات وظروف البلاد، مثل الإهمال، والبطالة، وتفشي المخدرات، وعدم وجود هدف يحقق للشاب ذاته، وغيرها من الأوضاع المجتمعية التي لها تأثيرات سلبية على الحالة النفسية والعصبية".
ويشدد العلواني على أنه "لا يمكننا توفير العلاج من دون أن تكون هناك حلول حكومية. يجب إزالة العوامل التي تسبب المرض لنبدأ بالعلاج، وهذه مسؤولية الحكومة، وجهات مجتمعية أخرى"، مشيراً إلى أن "تطبيق القانون أيضا غير مجد في تحجيم تلك الجرائم، فالجرائم لا يمكن مكافحتها فقط بالعقوبات، بل ينبغي وضع حلول ومعالجات تسبق ارتكاب الجريمة كجزء أساسي في مكافحتها". ويدعو الطبيب العراقي المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية إلى "إنشاء مراكز بحثية، ومراكز دراسات متخصصة، وأن يكون هناك دور أكبر للجامعات في بحث هذا الملف، ومحاولة البحث عن علاج، بدلاً من ترك الملف مهملاً كما هو الوضع حالياً. فالحكومة غير قادرة على إعادة التأهيل المجتمعي، ولم تضع أي حلول لهذه المشاكل".