عراقيون يرتدّون إلى حضن القبيلة

17 يوليو 2021
مصافحة بين ممثلي عشيرتين (حيدر حمداني/ فرانس برس)
+ الخط -

في ظلّ ضعف القانون وسيطرة الأعراف القبلية، باتت للقبيلة سلطة واسعة في الشارع العراقي اليوم، وتتولى حماية أتباعها من كثير من المشاكل، إلى درجة أنّها قد تقف في وجه القانون وتخالفه وتفرض أعرافها. من هنا، بات كثير من العراقيين تحت عباءة القبيلة، ومنهم المثقفون والمتعلمون من سكان العاصمة بغداد ومدن أخرى تعرف بتمدنها وبعدها عن أعراف القبيلة، كالموصل وسامراء على سبيل المثال، على الرغم من إيمانهم بأنّ سطوة القانون لا بد أنّ تفرض نفسها على الجميع، وألّا تتعدى الأعراف القبلية حدود القانون.
ويؤكد مثقفون ونخب أكاديمية وأطباء لـ"العربي الجديد"، أنّهم تعرضوا لحالات ظلم أو كانوا شهوداً عليها، وذلك نتيجة الأعراف القبلية، من دون أن يتمكن القضاء من حماية حياة وممتلكات وكرامة الضحايا. والنتيجة أنّ دور القبيلة بات أقوى من القانون، الأمر الذي فرض عليهم توطيد العلاقات مع القبيلة.
شمّر، قبيلة عريقة يمتد وجودها من شمال العراق حتى جنوبه، وينتمي إليها حسن عبد الرحيم. يقول إنّه لم يكن يعرف الكثير عنها على الرغم من أنّه يحمل لقبها. عبد الرحيم، وهو أستاذ جامعي، كان قليل الاهتمام بالتقاليد العشائرية، إذ نشأ وسط عائلة أقرب إلى المدنية، كما يقول لـ"العربي الجديد". يضيف: "تَعرُّض بيت جاري لإطلاق نار من قبل مسلحين قبليين كان درساً لي" الأمر الذي دعاه للجوء إلى قبيلته والتواصل مع شيخها وأفرادها. كان جار عبد الرحمن قد دهس شاباً، الأمر الذي أدى إلى كسر في قدمه وبعض الكدمات. وعلى الرغم من أنّ القضاء حكم لصالح السائق باعتبار أنّ الشاب لم يلتزم بقانون المرور، فإنّ حكم القبيلة كان مختلفاً. ووفقاً لعبد الرحيم، فقد احتمى جاره بقبيلته التي عقدت برئاسة كبارها مع نظرائهم من قبيلة الشاب جلسة عشائرية، انتهت بالاتفاق على دفع مبلغ للشاب.

وفي الوقت الحالي، يدرك العراقيون مدى ضرورة أن يكونوا على صلة بعشائرهم. "فمقاطع الفيديو تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر مسلحين من القبائل يهددون آخرين، الأمر الذي يتطلب من الجميع أن تكون لهم قوة تحميهم"، كما يقول عضو مجلس شيوخ عشائر بغداد محمد الدليمي. ويوضح في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ "النزعة القبلية قديمة ومتأصلة. لكنّها كانت خامدة لسنوات طويلة بسبب قوة القانون الذي كان يسري على الجميع، ولم يكن أحد ليجرؤ على مخالفته أو تجاوزه". إلّا أنّ الأمر اختلف كثيراً مع غزو العراق وما شهدته البلاد من تراجع أمني، الأمر الذي فرض على الناس اللجوء إلى القبيلة لحماية أنفسهم، وفقاً للدليمي. يضيف أنّ "هذا يشمل الجميع، بمن فيهم الكفاءات والمثقفون وأصحاب المراكز العلمية العليا في البلاد".

شيوخ عشائر يشاركون في مأتم (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
شيوخ عشائر يشاركون في مأتم (أحمد الربيعي/ فرانس برس)

ما ذهب إليه الدليمي بات قناعة عامة لدى العراقيين، ومن بينهم النخب العلمية، وهو ما يؤكده الأستاذ في كلية الآداب في الجامعة المستنصرية حيدر شهيد هاشم. يقول لـ"العربي الجديد"، إنّه يفخر بانتمائه العشائري، ويضيف: "جميعنا نتحدر من عشائر عراقية كانت لها مواقف مشرفة في مختلف الأوضاع، لا سيما تلك التي شكلت مخاطر على البلد والسلم المجتمعي". يتابع: "من الطبيعي أن يفخر الشخص بانتمائه العشائري عندما تكون لعشيرته مواقف وطنية وممارسات مجتمعية إيجابية تصب في صالح المجتمع". يتابع هاشم: "تطور الأمر كثيراً خلال السنوات الماضية، وباتت العديد من العشائر تؤدي أدواراً ليست من صلاحيتها. وفي كثير من الممارسات تجاوز وتحدٍ لسلطة الدولة والقانون". ويقول: "من البديهي أنّ تلك الممارسات لم تكن لتحدث لولا ضعف الحكومات المتعاقبة، لا سيما في الشقين الأمني والقانوني"، مشيراً إلى أنّ "الركون إلى العشيرة لحلّ المشاكل التي يتعرض لها الناس لم يعد يقتصر على فئات محددة في المجتمع، بل تطور ذلك ليشمل الطبقات المثقفة فيه، والتي غالباً ما كانت تفضل اللجوء إلى الدولة والقانون لحلّ المشاكل". لكنّ سطوة العشائر وتأثيرها في المشهد العراقي "تدفعان المثقفين وحملة الشهادات إلى الاحتماء بالعشيرة كونها توفر الحماية بشكل عملي وسريع لهم"، بحسب هاشم. وحاله حال آخرين، يجد هاشم نفسه مضطراً للاحتماء بالقبيلة، والسبب "ضعف الدولة"، محملاً مسؤولية إضعاف الدولة لصالح العشائر لكثير من السياسيين ومن تقلدوا زمام الأمور في العراق لأغراض سياسية وانتخابية.

لم يكن كثير من المثقفين والأكاديميين يرفقون ألقاب قبائلهم مع أسمائهم لدى التعريف عن أنفسهم، لكنّ الوضع اختلف اليوم. ويقول الشاعر محمد السويدي، لـ"العربي الجديد": "حين نتكلم عن السيادة القبلية كونها واقعاً، فهذا يعني أنّنا نسلم بوجودها في مجتمع تنام عنه عين القانون وتغض النظر عن كثير من التجاوزات". ويرى السويدي أنّ "المثقف لا ينسلخ عن التكوين الذي هو جزء من نسيجه، لأنّه لا بدّ أن يتناغم معه بشكل أو بآخر. وإذا أردنا أن نتكلم عن رؤية المثقف للسلطة القبلية، فإنّنا قد ننجرّ إلى اتهامه بالوقوف معها أحياناً وتجرده من الثوب الثقافي". ويشير إلى أنّه "حين تكون سلطة القبيلة أعلى من السلطات الأخرى، لا يسع كثير من المثقفين أو المبدعين إلا الانضواء تحت تلك الراية كحلّ بديل أو مؤقت ريثما تتضح ملامح أخرى". لكنّه في المقابل، يرى أنّ سيادة القبيلة واضطرار المثقف للانضواء تحت رايتها طلباً للحماية تسببا في تراجع الوعي الثقافي عموماً في العراق.

المساهمون