استمع إلى الملخص
- بقيت طاحونتان فقط من هذا الإرث، واحدة في حالة جيدة بفضل جهود وزارة السياحة والآثار، بينما تحولت الأخرى إلى هيكل خارجي ينتظر الترميم.
- الخبراء والأصوات الأثرية تشدد على أهمية الحفاظ على هذه الطواحين كجزء من التراث الحضاري والثقافي لمصر، مؤكدين على ضرورتها السياحية والتاريخية وأهمية نقلها للأجيال القادمة.
في زمن مضى، أدّت طواحين الهواء في الإسكندرية دوراً أساسياً في تاريخ هذه المدينة المتوسطية، وكذلك في تاريخ مصر ككلّ، لتُعَدّ اليوم كنزاً مهدّداً بالاندثار.
تبدو طواحين الغلال الأثرية شاهدة على عراقة الحضارة المصرية وإرثها الزاخر. وفي الإسكندرية، على الساحل الشمالي من البلاد، تنتصب طاحونتان من هذه الآثار الفريدة في إشارة إلى زمن مضى. وتعود هذه الطواحين إلى عهد حاكم مصر محمد علي باشا (1805 - 1848)، حين أمر ببناء أكثر من ثلاثين طاحونة في المدينة من أجل تسهيل حياة المواطنين وتوفير احتياجات الشعب والجيش من الدقيق، بعيداً عن الطواحين البدائية التي تعتمد على الدواب. يُذكر أنّ موقعها الساحلي على البحر الأبيض المتوسط كان يضمن استفادتها من قوّة الرياح، في حين أنّ بعدها عن المناطق السكنية كان يحول دون إزعاج الناس بضجيجها المتواصل.
واليوم، في ظلّ إهمال طال، تبقّت طاحونتان فقط من هذه الآثار الفريدة شاهدتَين على ما كان، شرقي الإسكندرية في منطقة المنتزه. وفي حين أنّ إحداهما ما زالت واقفة في حالة جيدة بعدما أولتها وزارة السياحة والآثار المصرية عنايتها، لم يتبقَّ في طاحونة المندرة إلا الهيكل الخارجي فقط، علماً أنّ نظامها الداخلي انهار، وكذلك آلية عملها ومستلزماتها، فتهالكت بعد تأخّر عملية ترميمها.
يقول أستاذ الإرشاد السياحي ونقيب المرشدين السياحيين السابق إسلام عاصم لـ"العربي الجديد" إنّ "هاتَين الطاحونتَين تبعثان في نفوسنا حنيناً إلى عصر مضى، وتذكّران بإرث حضاري عريق نحن مدينون به لأسلافنا. فيا ليت هاتين (الطاحونتَين) الشامختَين المتبقيتَين تظلان شامختَين وشاهدتَين على تاريخ مصر العريق". يضيف عاصم أنّ "طواحين الهواء كانت تنتشر على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، بهدف تلبية احتياجات المصريين من الطحين"، مشيراً إلى أنّ "قرار بنائها بالقرب من الشواطئ سهّل عملية تهدمها بفعل الرياح العاتية، وانعدام الاهتمام والصيانة، خصوصاً أنّها قديمة، وأنّ بناءها بسيط".
يضيف عاصم أنّ "أقدم الطواحين شُيّدت في عام 1805 وأحدثها في عام 1848، وذلك وفقاً لخرائط الإسكندرية القديمة". ويوضح أستاذ الإرشاد السياحي: "كان للطواحين مواسم عمل مكثّفة وأخرى خفيفة، وذلك استناداً إلى مواسم حصاد القمح، بالإضافة إلى مواسم شدّة الرياح. وكان حجم استيعابها الأقصى يصل إلى 10 أطنان من الطحين يومياً، وكان حجم الإنتاج هذا مناسباً للكثافة السكانية في ذلك الحين".
من جهته، يتحدّث الخبير الأثري والمشرف العام على متاحف ومواقع الإسكندرية الأثرية الأسبق أحمد عبد الفتاح لـ"العربي الجديد" عن شكل الطاحونة. ويشرح أنّها تتألّف من "جسم أسطواني الشكل من الحجر الجيري، يعلوه شكل مخروطي خشبي مع نوافذ صغيرة للتهوية والإنارة يمتدّ من الأعلى، وتتدلّى منه مروحة تتألّف من ثماني ريش". يضيف عبد الفتاح أنّ "في الطاحونة مدخل معقود بعقد نصف دائري، فيه سلّم حلزوني الشكل، ملتحم بجدار الطاحونة، يؤدّي إلى غرفة علوية ذات أرضية خشبية تحتوي على أدوات الطحن، ومنها زراع تحكّم بدرجة نعومة الطحين، ومروحة خارجية، وقادوس، وتروس داخلية، وقرص الراحة، ومخر الدقيق".
ويبيّن عبد الفتاح أنّ "قيام وزارة الآثار بأعمال ترميم شاملة ورفع كفاءة طاحونة المنتزه وحدها لإعادة تشغيلها مزاراً سياحياً دون طاحونة المندرة، يعود إلى أنّ الأولى ما زالت تحتفظ بأدوات الطحن القديمة بخلاف طاحونة المندرة التي تحوّلت إلى مبنى متهالك من دون أي مظاهر أثرية".
في الإطار نفسه، يشير الخبير الأثري محمد منصور لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "طواحين الهواء الأثرية في الإسكندرية (ما تبقّى منها) تمثّل إرثاً حضارياً ثرياً لا بدّ من الحفاظ عليه والاعتناء به، مشدّداً على أنّه "لا ينبغي السماح لهذه الآثار المعمارية المميّزة بأن تندثر أو تنهار تحت وطأة الإهمال والتقادم". ويوضح منصور أنّ "طواحين الهواء لم تكن مجرّد بنى هندسية جامدة، بل كانت جزءاً لا يتجزّأ من نسيج حياة المصريين في عهد محمد علي وما بعده، وهو أمر بإنشائها لتسهيل عيش المواطنين وتحريرهم من عبء طحن الحبوب بالطرق البدائية. وكانت طواحين الهواء تؤدّي وظيفة حيوية في حياة الناس اليومية، بالإضافة إلى أنّها شاهدة على قدرة المهندسين المصريين، وتقدّمهم التكنولوجي في تلك الحقبة من الزمن".
بالنسبة إلى منصور "لا ينبغي أن ننسى أنّ طواحين الهواء كانت تضفي على المشهد الحضري للإسكندرية سحراً وجمالاً معماريَّين فريدَين، إذ هي تزخر بتفاصيل هندسية دقيقة وراقية تعكس ذوقاً جمالياً متميّزاً، كذلك فإنّ الحفاظ عليها (ما تبقّى منها) من شأنه أن يعزّز جاذبية المدينة السياحية والثقافية". ويطالب الخبير الأثري وزارة السياحة والآثار بوضع الطواحين على رأس أولوياتها، وبذل قصارى جهدها لترميمها وصيانتها بصورة دورية، بعدما تعرّضت لأضرار بفعل الزمن والإهمال خلال السنوات الماضية. ويشدّد على أنّ هذا "ليس مجرّد واجب وطني، بل هو حتمية حضارية وإنسانية، لكي نحافظ على تراثنا الثري، وننقله إلى الأجيال القادمة، خصوصاً أنّ المحافظة على هذه الآثار جزء من رسالة مصر إلى العالم، بأنّها تعتزّ بتاريخها وحضارتها، وتحرص على صونهما وإبرازهما للعالم".
وفي سياق متصل، يفيد مصدر مسؤول في قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية في الإسكندرية "العربي الجديد" بأنّ "طاحونة هواء المندرة مسجّلة أثراً وفقاً للقرار رقم 113 لسنة 1967، وقد صدر قرار بتحديد حرم الأثر رقم 426 لسنة 2009. وفي الفترة الأخيرة، تعرضّت لانهيارات متكرّرة، وصارت مبنى متهالكاً قد يتهاوى في أي وقت، إذ لا يضمّ أي مظاهر أثرية على الإطلاق سوى تاريخ تشييده، وذلك بعد فقدان الغرفة العلوية الخشبية في الطاحونة، وكذلك كلّ أدوات الطحن الداخلية، باستثناء جزأين من قرص الرحى". ويبيّن المصدر المسؤول أنّ "وزارة السياحة والآثار أجرت أعمال ترميم شاملة، ورفع كفاءة لطاحونة المنتزه، لأنّها ما زالت تحتفظ بأدوات الطحن القديمة المصنوعة من حجر الليمونيت والحجر الجيري، مع استخدام الروابط الخشبية، إذ إنّ طواحين الهواء كانت تدور في البداية بواسطة الدواب إلى حين تطويرها لتعمل بفعل الرياح". ويكمل أنّ "الأعمال التي أُجريت شملت ترميم الطاحونة وتطويرها ورفع كفاءتها بما يتماشى مع عمرها، من أجل إعادة الاستغلال السياحي للموقع، وبالقدر الذي يحافظ على بقائها على قيد الحياة من دون استئناف نشاطها".