طلب الرزق في مقابر تونس

15 مارس 2021
في إحدى مقابر العاصمة (ياسين قائدي/ الأناضول)
+ الخط -

حافظت مقابر تونس على خصوصيتها وحُرمتها واعتبارها الروحي، ورغم شبح الموت والسكون المخيم فيها، يتدفق شريان الحياة بين القبور، يحرّكه سكان المقابر وزائروها ممن يعملون فيها ويتحصلون على رزقهم بفضلها

لا تختلف مقابر تونس بعضها عن بعضها الآخر، بين جنوب البلاد وشمالها، إلا في تنوع العادات والتقاليد والخصوصيات المعمارية، لكنّ مظاهر وممارسات مشتركة وخاصة، تميز مقابر تونس عن بلدان الجوار. ومن المفارقات التونسية تحويل المقبرة، أو الجبّانة كما تعرف محلياً في تونس وفي أكثر من بلد عربي، من رمز للموت والحياة الآخرة، إلى مصدر للحياة الحاضرة والأمل فيها، إذ تشهد المقابر يومياً حركة ونشاطات مرتبطة بخصوصية المكان. تسجل العاصمة تونس والمحافظات الكبرى المحيطة بها (أريانة ومنوبة وبن عروس) عدداً كبيراً من المقابر ذات المساحات الواسعة، إذ إنّ عددها هناك 90 مقبرة على مساحة إجمالية تتجاوز 150 هكتاراً، كما فاق كثير منها طاقته الاستيعابية، بوصوله إلى 270 ألف قبر، حتى أنّ نحو 60 مقبرة لم تعد قادرة على توفير مساحة لقبور جديدة. أكبر مقابر العاصمة، الجلاز (أو الزلاج) تعتبر أيضاً من أقدم المقابر في البلاد، إذ يعود تاريخها إلى العهد الحفصي (1207- 1574)، وكانت في بدايتها حكراً على أعلام الحاضرة وأشراف المدينة وعلمائها في تلك الفترة قبل أن تفتح أمام العموم في ما بعد. تقع المقبرة في مدخل الضاحية الجنوبية للعاصمة، بمنطقة باب العليوة، أحد الأبواب القديمة للمدينة، وعند سفح جبل التوبة الذي بدأ يتآكل بفعل عمليات التوسعة، هناك حيث مقام أبي الحسن الشاذلي (زاهد صوفي تنسب إليه الطريقة الشاذلية) الذي دفن بالقرب منه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، العام قبل الماضي. ويرقد في هذه المقبرة الشاسعة شهداء تونس وأعلامها وعامتها، إذ تتناثر القبور بيضاء ناصعة بين هضاب ومرتفعات المقبرة ومنحدراتها.

منذ تطأ الأقدام البوابة الرئيسية لمقبرة الزلاج المقابلة للمستشفى العسكري ومحطة المترو، يعترض السبيل عدد من الباعة، إذ تفترش فضيلة الأرض، ومعها ابنتها التي لا تتجاوز الرابعة، جالسة على حافة الجادة المحاذية لمأوى السيارات واضعة أمامها صندوقاً من الورق المقوى، تعرض فوقه قراطيس من الورق مليئة بالزوان (قمح) مخصصة لإطعام الطيور، لا تتجاوز حجم القبضة، وعلى الأرض أنواع من القوارير البلاستيكية معبأة بالمياه. تعرض فضيلة على العابرين شراء الماء والزوان ليرزق الله موتاهم بالأجر والثواب وتكون لهم صدقة جارية عن إطعام الطيور وسقيها. تقول فضيلة لـ"العربي الجديد" إنّ لشراء الزوان والماء أجرين، أجرا للميت، وصدقة عن أهله، كونها تعيل ثلاثة أبناء في كفالتها توفي والدهم في حادث مروري، وتعمل بنفسها لتوفر لهم لقمة العيش. ترفض فضيلة أن تهدر وقتها في الحديث عن وضعها الاجتماعي ومعاناتها، بحسب قولها، معتبرة أنّها تعبت من طلب مساعدة السلطات، كما أنّ العويل وندب الحظ لن يوفرا لها المال.
ويعمل في مقبرة الزلاج موظفون بلديون يتبعون الدائرة المعروفة بـ"محافظة مقبرة الزلاج" يسهرون على تسجيل الموتى وتنظيم مواعيد الدفن وأماكنها واستخراج شهادات الوفاة والرسوم والأختام، كما يتابعون سلامة المقبرة ونظافتها وحراستها.
ويتعاون مع موظفي المقبرة البلديين مقاولون مختصون في الدفن وتشييد القبور، كما ينتشر عمال المقابر أو"القبّارون" كما يعرفون في ثنايا المقبرة والذين يسهرون على حفر القبور وتوضيبها ثم تشييدها بعد عملية الدفن، ومن بعدها تزيين القبور. ويحوم في أرجاء المقبرة قارئو قرآن، يتجولون بين القبور يرصدون عمليات الدفن أو زيارات الأقارب، وينطلق هؤلاء في تلاوة ما تيسر من الآيات وترديد الأدعية فور مواراة الميت الثرى، من دون دعوة أو طلب، ثم يطلبون من أهل الفقيد إكرامية يسمونها "رحمة على الميت".
يقول عمر، وهو أحد "القبّارين" لـ"العربي الجديد" إنّ هؤلاء القارئين يطلق عليهم تسمية "الفدّاية" وهم من مرتادي المقبرة بشكل منتظم، إذ يتسابقون على المآتم والقبور، لنيل مقابل مالي عن ما يتلونه من آيات وأدعية، مشيراً إلى أنّ عائلات كثيرة ترحب بالفكرة، فيما غيرها يجد حرجاً في رفض خدماتهم. ويلفت إلى أنّ هؤلاء في الأصل من خادمي الزوايا (الصوفية) ومرتاديها، يبحثون عن لقمة عيشهم بين القبور وبفضل الموتى، مشيراً إلى أنّ تغير المجتمع وتحولاته قضت على عادات كانوا يسترزقون منها على غرار تنظيم مجلس لتلاوة القرآن والأدعية في منزل الميت عند الوفاة، وفي الفرق، أي ليلة الدفن، وفي الأسبوع، وعند الأربعين، وفي السنوية، وهي عادات بدأت تختفي من المجتمع التونسي. ويروي عمر عن مهنته قائلاً: "حفر القبور وتشييدها مهنة حقيقية، فمعرفة القبور وسكانها واحترام الموتى وطقوس الإعداد ليست أمراً يسيراً". يتحدث عمر عن انحسار كثير من النشاطات التي تعرفها المقبرة بسبب جائحة كورونا، إذ جرى تشديد الرقابة والوقاية من جهة، فيما تسبب الخوف من العدوى في تراجع أعداد الزائرين. ويلفت إلى أنّ "المقبرة يسترزق منها الحفّار والقبّار والبنّاء والدهّان والخزّاف والحدّاد، كما صانع الرخام. وهؤلاء جميعاً يزينون القبور ويشيدون الكراسي والأحواض حولها كما الأسيجة". يضيف أنّ هناك من يعيش على جمع القوارير البلاستيكية الملقاة داخل المقبرة لبيعها بهدف إعادة تدويرها، وهناك من يبيعون الزوان والماء وبعض المأكولات الخفيفة عند البوابة.

قضايا وناس
التحديثات الحية

بدوره، يتجول عادل في المقبرة حاملاً دلو طلاء أبيض، وفرشاة، بيده، وحقيبة على ظهره. يقول لـ"العربي الجديد" عن عمله: "أبحث عن رزقي بين القبور، هنا وجدت الخير بين الموتى ولم أجده عند الأحياء". يتابع: "أنا أتجول من الصباح حتى الليل بين القبور، وقد نمت بينها سابقاً، قبل أن أستأجر غرفة في حي باب الفلة، أنام فيها حالياً". يضيف عادل: "المقبرة أكثر أمناً من الشارع، ولا يخيفني الموتى بل الأحياء وما يضمرون وما يمكرون". يشكو من تبعات الوباء التي قلصت عدد الزائرين، إذ عزف الناس عن زيارة أهلهم، وبالتالي تراجع دخله المتأتي من تنظيف القبور وطلائها بالأبيض.

المساهمون