تشهد الأسواق المصرية تغيرات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، يصفها البعض بأنها درامية، إذ بدأ البعض توديع "الكيلوغرام" كوحدة قياس تاريخية لشراء المنتجات والسلع، خصوصاً الغذائية، ليحل محله البيع بالقطعة أو بالغرام.
في مدينة الإسكندرية، ثاني أكبر مدن البلاد بعد العاصمة القاهرة، بدأت الظاهرة في التنامي بشكل متدرج على مدار الأشهر الماضية، حتى جاء عيد الأضحى ليكشف عن تحولها إلى واقع معاش، إذ انتهج بعض أصحاب المحال والتجار استراتيجيات للتكيف، بعد أن باتت فكرة الشراء بالقطعة تستهوي أعدادا كبيرة من الزبائن.
انتشرت لافتات بيع اللحوم بالقطعة عوضاً عن الكيلوغرام لدى الجزارين، ثم نافسهم بائعو الأسماك في البيع بالسمكة الواحدة، قبل أن يلحق بهما سائر التجار، فحوّل بائعو الجُبن وحدة القياس من الكيلوغرام إلى الـ100 غرام، وباتت بعض الخضروات تباع بكميات لا تتجاوز 250 غراماً.
حسب تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، ارتفعت معدلات التضخم السنوية لبعض المجموعات الغذائية؛ بصورة تفوق الرقم الإجمالي للتضخم البالغ 32.9 في المائة، الأمر الذي يؤثر على نمط واستهلاك وجودة الطعام، خاصة لدى الأسر محدودة الدخل، كما تضاعف معدل التضخم في الخبز والحبوب نحو أربع مرات خلال العام الأخير، وزادت أسعار اللحوم والدواجن بنسب تفوق 90 في المائة، كما ارتفعت أسعار الألبان بنسب تتجاوز 70 في المائة.
ووفق التقرير، فان 93 في المائة من الأسر المصرية اضطرت إلى خفض الاستهلاك من اللحوم والدواجن والأسماك، فيما قللت 90 في المائة من الأسر استهلاكها من الطعام بشكل عام، و75 في المائة من الأسر قلصت استهلاكها من الأرز والبيض والزيوت والفاكهة.
تقول عزيزة مصطفى، وهي ربة منزل خمسينية، لـ"العربي الجديد": "قطعة اللحم الصغيرة بـ50 جنيهاً، هذا شيء لا يصدقه عقل. حتى صناع السينما لم يكن يخطر في خيالهم أن يأتي اليوم الذي نشتري فيه اللحوم بالقطعة". لكنها تبدي قلقها من استمرار الارتفاع "غير المبرر" للأسعار، والذي ترجعه إلى غياب الرقابة، وعجز الحكومة عن ضبط الأسواق، فضلاً عن تواصل انخفاض قيمة الجنيه، إذ تجاوزت قيمة الدولار الأميركي الواحد ثلاثين جنيهاً.
لا ترى الحاجة عزيزة التي تعتمد علي راتب تقاعد "معاش" لا يكفي مصروفات الشهر الأساسية، حرجاً في شراء جميع احتياجاتها بالقطعة والغرام بدلاً من الكيلوغرام، وتضيف: "أجبرنا ارتفاع الأسعار على ترشيد الاستهلاك، وتقليل الكميات التي اعتدنا على شرائها. أصبحت مضطرة إلى الشراء بالقطعة من محل جزارة يقوم بتقسيم كيلو اللحوم البالغ سعره 400 جنيه إلى 8 قطع. أيام الخير انتهت"، على حد تعبيرها.
ويؤكد الحاج فتحي، وهو أحد أشهر جزاري غربي الإسكندرية، أن ارتفاع الأسعار خفّض مبيعاته من اللحوم في الأسبوع الذي سبق عيد الأضحى إلى النصف تقريباً، ما دفعه إلى التفكير في حل لزيادة المبيعات، ورفع الحرج عن الزبائن الذين يرغبون في شراء كميات صغيرة، وهو أحد من قرروا البيع بالقطعة، ويشير إلى أن الأمر قوبل بترحيب كبير من الزبائن.
ويشير إلى أن "فكرة البيع بالقطعة لم تكن من بنات أفكاري، لكني سرت فيها على خطى محال جزارة أخرى في محافظات، من بينها البحيرة وسوهاج وأسيوط. حتى الآن، لم يألف كثير من الزبائن الفكرة، فالغالبية لديهم ثقافة الشراء بالكيلو، لكنها أصبحت بديلا مقبولا لدى بعض المواطنين الذين يعانون من ارتفاع الأسعار".
في المقابل، ترفض عبير إبراهيم، وهي ربة منزل، تعميم تجربة الشراء بالقطعة، رغم أنها باتت رائجة في كثير من المحال التجارية، مشيرة إلى أن من يقبل عليها هم محدودو الدخل، للتحايل على ارتفاع أسعار مختلف أصناف المواد الغذائية الأساسية بشكل غير منطقي.
تضيف: "الأمر قائم في أسواق الدواجن منذ سنوات، وأنا وغيري نشتري بالقطعة، لعجزنا عن تأمين الأغذية بالكيلو نظراً لارتفاع الأسعار بشكل يفوق قدرتنا الشرائية، وهذا ما اضطر أصحاب المحال إلى تغيير مفهوم البيع، فلم يعد غالبية الزبائن يشترون الدجاجة كاملة، ما يدفع البائع إلى تقطيعها إلى أجزاء، صدور وأوراك وأجنحة وخلافه، وهو ما يمكّن الزبون من شراء القدر الذي يحتاجه وفقًا لاحتياجات أسرته".
تتابع إبراهيم: "أسواق الأسماك أيضاً ليست أفضل حالا، فارتفاع الأسعار تفاقم خلال العام الأخير، ما دفع الزبائن إلى فرض نظام جديد للشراء على التجار، وهو الشراء بالعدد، وليس بالوزن، فأصبح الزبون يحدد عدد السمكات التي يرغب في شرائها وفقاً لعدد أفراد أسرته، بينما يلتزم البائع بوزن ما يحتاجه الزبون فقط".
ويقول أشرف سردينة، وهو تاجر أسماك بميدان المنشية في وسط الإسكندرية، لـ"العربي الجديد"، إن "ظاهرة البيع بالعدد بدأت قبل فترة، لكنها زادت حتى أصبحت الأصل مع ارتفاع الأسعار خلال الفترة الأخيرة، إذ يحدد الزبون عدد الأسماك التي يرغب في شرائها بحسب عدد أفراد أسرته. في السابق كان التجار يوافقون على البيع بالعدد في حال كان حجم السمك كبيراً، بحيث تزيد السمكة الواحدة عن 300 غرام، أما إذا كان السمك صغيراً فيرفضون. الآن، ومع الانخفاض الكبير في المبيعات، اضطر الجميع إلى القبول بالأمر الواقع، وتغير الميزان التقليدي القديم ذي الكفتين إلى الميزان الرقمي القادر على احتساب الأسعار بالغرامات وليس بالكيلو".
وترى عزة سعيد، الطالبة بالفرقة الرابعة بكلية التجارة في جامعة الإسكندرية، أن الفكرة أثارت فضولها، فذهبت للتجربة، ثم اكتشفت أن مشترياتها كانت خفيفة الوزن نسبياً، وساهم ذلك في تقليل قرابة 20 في المائة من السعر الذي كان من المفترض أن تدفعه في حالة الشراء بالأسلوب التقليدي.
وتضيف: "لحق تجار الأجبان والألبان بالتحول الجديد الذي شهدته الأسواق، فقاموا باستبدال اللافتات القديمة التي تُعلن أسعار منتجاتهم بالكيلو، ووضعوا غيرها مكتوباً عليها الأسعار بالـ100 غرام، فالجُبن التركي مكتوب عليه الـ100 غرام بـ20 جنيهاً بعد استبدال اللافتة التي كان مكتوبا عليها أن الكيلو بـ120 جنيهاً، بينما الجُبن (الفلامنك) مكتوب عليه الـ100 غرام بـ35 جنيهاً، بدلاً من لافتة الكيلو بـ240 جنيهاً، وبعض الخضروات أيضاً تباع بالغرام، فسعر كيلو البامية في الأسواق 140 جنيها، ما يدفع البائعين إلى كتابة الأسعار بالـ250 غراماً البالغ قيمتها 35 جنيها، وهذا السعر أخف وطأة على الزبائن".
من جهتها، تؤكد الباحثة الاجتماعية نجلاء عبد المنعم، أن "البيع والشراء بالقطعة ثقافة جديدة على الأسواق المصرية رغم أنها مطبقة في كثير من دول العالم لتقليل الفاقد، ويرجع انتشار هذه الظاهرة مصرياً إلى ارتفاع الأسعار مع تراجع القدرة الشرائية لغالبية المواطنين، ما ساهم بشكل كبير في تغيير فئة كبيرة من المواطنين أنماط استهلاكهم المعتادة لتأمين احتياجاتهم".
واعتبرت عبد المنعم أن "الظاهرة ربما يكون هدفها الأصلي هو ضغط الإنفاق على المستوى الفردي، لكنها على المستوى الأوسع تؤدي إلى وقف إهدار الموارد، وتساهم في ترشيد الاستهلاك، وهذا شيء صحي للمجتمع والاقتصاد".
بدورها، ترجع الباحثة في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، سالي عاشور، الظاهرة إلى ما أسمته "أثر الأزمات على السلوك الاستهلاكي للأفراد في مصر"، مشيرة إلى أن "مصر إحدى أكثر البلدان المعرضة لارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، والصدمات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا؛ نظراً لاعتمادها على الواردات الغذائية التي تمثل أكثر من 40 في المائة من استهلاك السعرات الحرارية في البلاد".
وتوضح عاشور أن "زيادة أسعار الغذاء، وتحرير سعر الجنيه في مقابل الدولار الأميركي دفعت إلى تسارع معدلات التضخم في المدن، ونتج عن ذلك أوضاع اقتصادية ضاغطة على دخول الأفراد، وكل ذلك كان له تأثير مباشر على نمط ومعدلات الاستهلاك. الأسر الفقيرة تظل الأكثر عرضة للتأثر، نتيجة كونها تخصص حصة أكبر من دخلها لاستهلاك الغذاء، وينعكس الأمر على تقليل الكميات، أو على نمط الشراء بالقطعة أو بالغرام وفقاً للاحتياجات الفعلية".