طرح الصوف... إرث شعبي جزائري يقاوم الزمن

25 مايو 2023
تحافظ عائلات جزائرية على المفروشات الصوفية (العربي الجديد)
+ الخط -

تقاوم حرفة صنع المفروشات بالوسائل التقليدية عوامل الزمن وانحياز الجزائريين إلى منتجات المصانع، وما زالت الحرفة قائمة داخل عدد محدود من العائلات التي يتوارث فيها الأبناء الحرفة أباً عن جد.
في خربة الدباغ بقلب مدينة ميلة القديمة شرقي الجزائر، وقبل 100 عام تقريباً، بدأت عائلات المدينة تجارة وبيع الصوف، وازدهرت الحرفة كثيراً في العقود اللاحقة، وتناقلها الأبناء ثم الأحفاد، لكنها حالياً تنحصر بين ثلاث أو أربع عائلات معروفة في المنطقة باحترافها منذ عقود طويلة، بينما توقفت الكثير من العائلات مع تراجع الطلب على هذه الحرفة بفعل انتشار المنتجات المستوردة، ليصبح العمل في بيع الصوف مقتصراً على ما يلبي احتياجات صناعة المفروشات التي ما زالت مرتبطة بالعادات والتقاليد.
يعمل عبد العالي بن عبد الرحمان في تجارة الصوف وصناعة البضائع النسيجية والمفروشات منذ عام 1982، بحي الدباغين أو ما يطلق عليها شعبياً "خربة الدباغ" في مدينة ميلة، والحي كان مخصصاً لدباغة الجلود، ويقصده التجار من المناطق والمدن المجاورة مثل عين التين وعين سمارة والبوني وزيامة وبني يدر وغيرها، قبل أن يتأسس في المدينة سوق الصوف. 

يعتبر عبد العالي أن الحرفة التي يمتهنها باتت نادرة بحكم تقلبات السوق، وما تبقى من طلب الزبائن، ويقول لـ"العربي الجديد": "ما زلت أمارسها لأنها حرفة جدي بوزيد، وقد ورثها عن والده محمد الشريف".
يجوب محمد بوحراتي (54 سنة) الأسواق لبيع الصوف الذي يشتريه من الموالين المعروفين، يتنقل من منطقة عين التين إلى سوق الجلود في وادي العثمانية ومنطقة بلاد يوسف ثم عين مليلة بولاية أم البواقي، وصولاً إلى باغاي بولاية خنشلة، ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أنه بدأ تجارة بيع الصوف في محل بمنطقة باردو بقسنطينة قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي "مهنة تجري في الدم"، ولا يمكنه التخلي عنها مثل غيره ممن تركوها قبل سنين. "تعلمتها منذ نعومة أظافري من والدي، وكانت هناك منافسة بيني وبين إخوتي على إتقانها، ولاحقاً كانت هناك منافسة شديدة مع التجار الآخرين، والعائلة لم تتراجع عن ممارستها بحب وشغف كبيرين، وحتى اليوم، لدي زبائن معروفون رغم تقلبات السوق، ونقص الطلب على الصوف، والمنافسة الشديدة مع المنتجات الآلية والمستوردة، وفارق الأسعار الكبير بين المحلي والمستورد".
ويوضح كريم الأزعر، من عين النشمة شرقي الجزائر، أنه "لعقود من الزمن كانت تجارة الصوف في مناطق الشرق الجزائري كولايات قسنطينة وسكيكدة وباتنة، تقتصر على عائلات معرفة، ورث أفرادها المهنة بدورهم عن الأجداد، ومن بينها عائلات تباني، وفيلالي وبلجود، وعائلتي. تعلمت المهنة من والدي وجدي حين كنت في سنّ الثامنة، وكذا ثلاثة من إخوتي، وكنا نجوب العديد من المناطق لجمع الصوف والجلود، ثم بيعها في سوق الجملة".

طرح الصوف مهنة تجري في الدم (العربي الجديد)
طرح الصوف مهنة "تجري في الدم" (العربي الجديد)

يحكي الأزعر لـ"العربي الجديد"، أنّ "العائلة تمكنت من السيطرة على سوق بيع الجلود والصوف منذ السبعينيات إلى يومنا هذا، إذ راجت عملية بيع الصوف كثيراً في المنطقة بسبب كثرة الطلب، خاصة وأنها من بين مكونات صناعة الفرش التقليدي والوسادات. كان الصوف رائجاً في الأوساط الشعبية، بينما يقتصر الطلب اليوم على العائلات التي ما زالت تحافظ على بعض تقاليد تحضير جهاز العروس، وسعر قنطار الصوف يتعدى 12 ألف دينار جزائري (نحو 60 يورو)، وثلاثة قناطير يمكنها تحضير جهاز الفتاة قبل الزواج".
وترتبط المهنة بالمناسبات، إذ يقيم أهل الفتاة أياماً خاصة لغسل الصوف، فتجتمع نساء العائلة لمدة يومين لغسل صوف العروس، مرددات الأهازيج والزغاريد، مع طهي مأكولات تقليدية، وبعد ذلك يجرى تعريضها للشمس حتى تجف، ثم تنظَّف مجدداً عبر ضربها بقضيب خشبي لتنقيتها من الشوائب العالقة، وتجهيزها في صناعة الفرش، والذي يسمى باللهجة الشعبية "الطّْرِيح"، ويختص بذلك كثير من النساء والرجال، وتستعمل فيها إبر غليظة مع خيط متين، قبل تغليفها، وصناعة وسائد محشوة بالصوف أو فرشات خاصة بغرف النوم وغرف الضيوف.
وتقول الجزائرية نادية (56 سنة)، والتي تشتغل في هذه الحرفة منذ أكثر من عقدين، إن هذا اليوم مميز بالنسبة لأهل العروس، موضحة أن الكثير من عائلات منطقة زارزة يقصدونها للإشراف على العملية، بداية من غسل الصوف وصولاً إلى تجهيز المفروشات المختلفة، لافتة في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أنّ الإقبال يتزايد في فصل الصيف حيث يكثر غسل وتنظيف وإعداد الصوف ليكون جاهزاً لصناعة الأفرشة يدوياً.

تراجع الإقبال على مفروشات الصوف لصالح منتجات مستوردة (العربي الجديد)
تراجع الإقبال على مفروشات الصوف لصالح منتجات مستوردة (العربي الجديد)

وباتت عملية غسل الصوف تجارة مربحة تزاولها العديد من النساء، رغم أنّها مطلوبة في وسط شعبي ضيق، تقول نادية: "عملية الغسل تحتاج إلى يومين أو ثلاثة، وتتعاون فيها مع أهل العروس العديد من نساء العائلة في جو احتفالي بهيج لتحضير جهاز العروس الذي يكون حاضراً ضمن بقية الأثاث والأغراض التي تأخذها العروس إلى بيت زوجها في يوم الزواج".
ورغم رياح العصرنة، فإنّ "طرح الصوف" مازال من العادات الرائجة في بعض المناطق الجزائرية، لأن "فراش الصوف" أو "مطرح الصوف" والذي يضم الكثير من الوسائد وبعض المفروشات يعد من أساسيات جهاز العروس، ولا يكاد يخلو بيت جزائري من "مطرح الصوف".

وتؤكد أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة البليدة، كريمة منداسي، أن "سبب هذه العادات راجع أولاً إلى توفر مادة الصوف في المناطق الرعوية الملائمة لتربية الأغنام، وهو ما يجعلها في متناول العائلات بأسعار معقولة". وتضيف لـ"العربي الجديد": "من الموروثات الشعبية أثناء احتفالية الخطبة، أن يكون الصوف شرطا من شروط المهر، وقد لا يتعدى ثلاثة قناطير تُدفع مع المهر، كما يرتبط تحديد يوم زفاف العروس إلى بيت زوجها بهذه العادات، وتسمى الشُّورَة، وتتنافس الفتيات فيما بينهن على أعداد الوسادات والأفرشة، ونوعها وطريقة تجهيزها، ورغم انتشار المنتجات المستوردة، لازالت مادة الصوف تصارع التقلبات الاجتماعية والاقتصادية، وبعض الأسر الجزائرية تتشبث بها، وتحافظ على وجودها رغم تراجع مكانتها في السوق".

المساهمون