المدينة هي في العلاقات التي تنشأ بين ناسها. يقول عبيدة تكريتي، وهو ناشط في مدينة طرابلس (شمال لبنان)، إن "المدينة لا تكون مدينة بالفعل إذا كان سكانها لا يلتقي بعضهم ببعض، إذ لا تكون عندها إلا مجرد مساكن تصل بينها شوارع وأزقّة". يعتبر تكريتي أن "الثورة التي اندلعت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، جعلت من طرابلس مدينة بكل ما للكلمة من معنى". خلال السبعة أشهر التي أغلقت فيها ساحة عبد الحميد كرامي بالكامل (ساحة النور) في طرابلس، وتحوّلت خلالها إلى ساحة للثورة، تشكّل لدى أهالي المدينة وعي جديد لمفهوم الساحة العامة، باعتبارها مساحة للتلاقي بين مختلف مكوّنات المدينة.
في هذا السياق، يعتبر جيمي كرم، وهو ناشط سياسي من طرابلس، أن الثورة التي أعادت أهالي طرابلس إلى الساحة، أي إلى الحيّز العام، أحيت عندهم وبينهم، في مجالسهم الخاصة كما في مقاهي المدينة، أحاديث في السياسة كانت تقتصر سابقاً على التذمّر من واقع لا حول ولا قوّة لهم فيه. "الثورة أعادت الطرابلسيين إلى الحوار بمعنى التبادل والنقاش، وبمعنى الاهتمام بالشأن العام". إثر اندلاع انتفاضة تشرين، أصبحت هموم المدينة في صلب أحاديثهم السياسية. يقول كرم إنّ "السياسة لم تعد تقتصر على زواريب التجاذبات بين مختلف الأحزاب والزعماء التقليديين، بل أدرك عدد كبير من الطرابلسيين أنّ أزمة النفايات وانعدام البنى التحتية وغياب التنظيم المدنيّ هو في صلب السياسة".
ساحة عبد الحميد كرامي
بعد عام على انطلاق ثورة 17 تشرين، وبعد أشهر على فتح مداخل ساحة النور وإزالة الخيم التي نُصبت في المكان من قبل الناشطين، يمكن العابرين في المكان أن يدركوا فوراً أنّ الثورة مرّت من هنا واستقرّت فيها. فمبنى غندور الذي شُيّد في الساحة قبل أكثر من 25 عاماً، والذي كان من المقرّر أن يكون فندق "خمس نجوم" قبل أن يتحوّل إلى مبنى مهجور، أصبح مطليّاً بالكامل بالعلم اللبناني. والجدران التي تحدّه من كل صوب، أصبحت هي الأخرى مرايا للثورة، حيث رسُمت عليها وجوه الشهداء الذين سقطوا في مختلف ساحات الوطن.
بالإضافة إلى الألوان التي استبدل الثوار بها اللون الرمادي الذي كان طاغياً على المكان، نزعت طرابلس عنها طلاءً من نوع آخر، وهو الصبغة "المتطرفة" التي لطالما التصقت زوراً بالمدينة. يقول كرم إنّ الساحة التي سيطرت عليها الحركات الإسلامية الأصولية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والتي عمدت إلى استبدال تمثال عبد الحميد كرامي بمجسّم لكلمة "الله" وسط الساحة، مذيّلاً بعبارة "طرابلس قلعة المسلمين"، جمعت من حولها نساءً ورجالاً، مسيحيين ومسلمين، وناشطين سياسيين من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. يضيف: "وحدها ثورة 17 تشرين استطاعت أن تمسح عن وجه طرابلس غبار حقبات زمنية ماضية ومظلمة خرجت منها المدينة بندوب كثيرة جعلت منها مدينة مهمّشة ومنقطعة عن باقي المناطق اللبنانية".
انفتاح المدينة على لبنان
على الصعيد اللبناني بشكل عام، شكّلت طرابلس مفاجأة ثورة 17 تشرين الإيجابية. ولكن قبل أي حديث عن انفتاح المدينة على المدن والمناطق اللبنانية الأخرى، يتوقّف تكريتي عند انفتاح المدينة على أبناء محافظة الشمال وعكار خصوصاً. يعتبر أنّ "ثورة 17 تشرين دفعت أبناء الشمال وعكار الذين توافدوا إلى ساحة النور لرفع الصوت في وجه النظام السياسي الحالي وإلى إعادة النظر بعلاقتهم مع طرابلس". فطرابلس هي المدينة الوحيدة في هاتين المحافظين، وهي بالتالي مدينة هؤلاء الأولى. يضيف: "خلال السنوات السابقة، كانت طرابلس مجرّد معبر لأهالي عكار للخروج من الشمال إلى بيروت وغيرها من المحافظات، وكانت بالنسبة إلى أهالي قضاء زغرتا مثلاً مقصداً لإنهاء معاملة رسمية في المؤسسات التي لا فروع لها في منطقتهم". أمّا اليوم، وبعدما جمعت طرابلس من حولها أبناء هذه المناطق كلها، اتخذت هذه العلاقة شكلاً مختلفاً يذكّر بدور المدينة المركزيّ الذي كانت تؤديه في السابق، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وغيرها من الأحداث المؤلمة.
مجتمع بديل
تشبه مدينة طرابلس أيّ مدينة أخرى بحركة مقاهيها وزحمة أسواقها القديمة وتوافد طلّاب المناطق المجاورة إلى جامعاتها. غير أنّ ثورة 17 تشرين أضافت إليها مكوّناً جديداً، هو المجتمع المدني الذي يعمل بجهد وجديّة على تنظيم نفسه وبلورة خطاب جديد في موازاة، بل في مواجهة الخطاب السياسي التقليدي السائد. يؤكد تكريتي وجود أصوات معارضة في مدينة طرابلس قبل اندلاع الثورة، إذ يمكن، بحسبه، فرز هذه الأصوات ضمن فئات أربع: "الأولى تضمّ باحثي المدينة وكتّابها وأكاديميّيها، والثانية العاملين في مجال الجمعيات الخيرية والمحلية والعالمية، والثالثة مستشاري السياسيين التقليديين الذين يتأرجحون بين السلطة ونقيضها، وأخيراً الحزبيين السابقين الذين كانوا أعضاءً وكوادر في أحزاب مثل الشيوعي والسوري القومي الاجتماعي وغيرهما من الأحزاب التي اعتبرت يوماً غير تقليدية".
بحسب تكريتي، ينحصر دور هؤلاء بالمعارضة وحسب، إن كان عبر منشورات أو من خلال حوارات تدور بينهم في المقاهي المعتادة. أمّا التغيير الذي أتت به ثورة 17 تشرين فيكمن في خلق وتسليط الضوء على فئة خامسة تتخذ لها حيزاً واسعاً في المدينة، هي المجموعات المعارضة التي تطرح بديلاً، وتطرح نفسها على أنها البديل وتستعدّ لتسلّم زمام الأمور وإحداث خرق وتغيير ملموس في واقع المدينة. ويشير إلى أنّ "بعض هذه المجموعات السياسية كانت تنشط في لبنان وفي طرابلس منذ ما قبل 17 تشرين، لكنّ الطرابلسيين لم يكونوا مستعدّين بعد لسماع خطابها والتفاعل معه". يضيف: "بالتالي، فتحت الثورة عيون أهالي المدينة على الخيارات السياسية البديلة". فتحت ثورة 17 تشرين عيون اللبنانيين على مدينة طرابلس وفتحت عيون أهالي المدينة نفسها على فرصة قد تنزع يوماً عن المدينة لقب أفقر مدن الساحل المتوسط.