طاولة الزهر... رفيقة كبار السن في لبنان

28 فبراير 2023
تُعدّ من أقدم الألعاب المدوّنة فى التاريخ (حسين بيضون)
+ الخط -

مساء كلّ يوم، يحمل الستيني اللبناني أبو خالد، طاولة الزهر أو النرد، ويضعها تحت إبطه، ويمضي بها نحو بيت جاره في إحدى قرى جبل لبنان. يرتشف قهوته، يفتح صندوقها الخشبي فيظهر لوحان مزخرفان تتوسّطهما ثلاثون قطعة بيضاء وسوداء، من العظم أو الخشب أو البلاستيك، تُسمّى الأحجار. يمسك حجري النّرد السداسيّين، معلناً جهوزيّته لخوض التحدّي والفوز على شريكه التاريخيّ، معوّلاً على حظٍ لم يخذله يوماً وذكائه وحرفيّته في قيادة مسار اللعبة.
بروحٍ حماسيّة، يجلس جاره أبو كامل على المقعد المقابل، ويردّد: "يلّا كبّ (ارمِ) لقلّك". يرمي أبو خالد زهره، وهو الملقب بملك الزّهر، فيأتيه ردّ شريكه سريعاً: "يا خيّي شو هالحظّ، شو عم تقرا (ماذا تقرأ) على الزهر؟". إلا أنّ أبو خالد يمضي في لعبته غير آبهٍ، بل ويذكّر أبو كامل بأدويته، وينبّهه قبل بدء اللّعبة إلى أنّه سيرفع له معدّل مرض السكري. ولا ينفكّ يسأله في كلّ مرة يحبس فيها أحجاره ويغلق أمامه أبواب الفوز: "طلع معك السكّري؟ أخذت الدواء اليوم أم لا؟".

في المقلب الآخر، تعشق الشابة العشرينية وطالبة الدكتوراه إليزابيت أبي عاد لعبة الطاولة، وتتفنّن في ابتكار طرق للفوز ولو بأيّ طريقة، وإلا "تطبش" (تغلق بغضب) الطاولة بما فيها أمام شريكها أو شريكتها لدى تسجيل الخسارة. أبي عاد التي تتقن اللعبة منذ عام 2016، وتلعبها مع خطيبها وأصدقائها، يظهر بوضوحٍ شغفها وحماسها للعبة. تحتسب بدقّةٍ الأرقام والخطوات الواجب اتّخاذها في تموضع كلّ حجر، وتنتظر بفارغ الصبر ما يحمله النرد لها وللطرف الآخر. ففي حال كان الحظّ حليف شريكها، تسارع إلى اتّهامه بأنّه يتلو رقية على الزهر.
وتقول لـ "العربي الجديد" إنّ خطيبها كان الدافع لتعلّم اللّعبة "بهدف التسلية وقضاء وقتٍ ممتعٍ في المقهى إلى جانب تدخين النرجيلة. "أهلي لم يعتادوا لعبها ولم أكن أعرف قواعدها وأصولها، لكنّني وبعد معرفتي بها أدمنتُ عليها في الفترة الأولى واشتريتُ طاولة وبدأنا نلعبها في المنزل. فكان أن تحمّس والدي وتعلّم طريقة لعبها، وبات يلعبها إلكترونيّاً وبشكل يوميّ. وبحكم انشغالي بالدراسات العليا، أصبحتُ ألعبها بين الحين والآخر، لكن بمجرّد أن أحظى بوقت فراغٍ، فإنّ طاولة الزهر أول فكرة تراودني". 

من جهته، يقول خطيبها إنه تعلّم اللعبة من والده وجيرانه وهو بسنّ مبكرة: "كنتُ ألعبها خلال عطلة الصيف. لكن في الوقت الحالي، ألعبها مرّة شهرياً أو في حال حظيتُ بوقت فراغ". 
وتختلف الروايات حول أصل لعبة الطاولة، بين من يردّها إلى الحضارة الفارسيّة منذ قرابة ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، مستشهداً بأرقام النّرد المنطوقة باللغة الفارسيّة، ومن يربطها بالمصريّين القدامى، ومن يعيد تاريخها ونشأتها إلى مدينة أور التاريخية في بلاد ما بين النهرين. كما يعيد البعض الآخر أصول اللعبة إلى الرومان قبل أن تنتقل إلى الأوروبيّين، ومن ثمّ إلى الأتراك الذين نقلوها إلى دول المشرق العربي التي كانت تحت سيطرتهم وحكمهم، وكذلك حملها المهاجرون الأوروبيّون إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، حيث انتشرت وتطوّرت، يقول البعض.

الصورة
حماس في اللعب (حسين بيضون)
حماس في اللعب (حسين بيضون)

غير أنّ الثابت والمعروف أنّ هذه اللّعبة تُعدّ من أقدم الألعاب المدوّنة فى التاريخ، وقد اكتسبت شهرةً واسعة وأصبحت من الألعاب الشعبيّة الأكثر انتشاراً في منطقة الشرق الأوسط والبلاد العربية، وفي عددٍ من دول العالم. ولبنان لم يكن بالبعيد عن ثقافة الطاولة التي دخلت منازله ومقاهيه مع الحكم العثماني، وفق ذكريات كبار السنّ من أهل العاصمة ومختلف المناطق اللبنانيّة. فاللعبة التي يُجمع معظم اللبنانيين على أنّها تركيّة الأصل، يُصدمون لدى معرفتهم بأنّ ما يردّدونه من أرقام خاصة بالطاولة هي بالأصل فارسيّة. 
في مقهى البرجاوي في منطقة الطريق الجديدة في بيروت، يروي صاحب المقهى سمير البرجاوي في حديثه لـ "العربي الجديد" كيف كان المقهى قديماً يزدحم بمحبّي طاولة الزهر على اختلاف ألعابها "كان بينهم مَن يلعب المحبوسة ومن يحبّذ الإفرنجيّة". وكان الدقّ أو البرتيّة (الدور) بربع ليرة لبنانيّة لكلّ لاعب، ومن ضمنها فنجان القهوة أو الشاي أو الزهورات. غير أنّنا ومنذ بدء الحرب الأهلية اللبنانيّة عام 1975 أوقفنا لعبة الطاولة، لما كانت تسبّبه من ضجّة وازدحامٍ شديد، وخلافاتٍ بين اللاعبين. في حين كان البعض الآخر يعتمد الغشّ من خلال "قرص" الزهر، أيّ الشدّ عليه قبل رميه في سبيل الحصول على "دشش (6+6)" أو أيّ رقم يحتاجه للفوز. وإثر ذلك، "اعتمدنا وضع الزهر في فنجانٍ صغيرٍ قبل رميه، تفادياً للغشّ، قبل أن تحتدم الأمور، فبادر كلّ من والدي وعمّي إلى تكسير كلّ طاولات الزهر، والاكتفاء بتخصيص المقهى للعب مختلف أنواع الشدّة (ورق اللّعب) وتدخين النرجيلة واحتساء القهوة والشاي".

الصورة
تنتظر بفارغ الصبر ما يحمله النرد (حسين بيضون)
​تنتظر بفارغ الصبر ما يحمله النرد (حسين بيضون) ​

ورث سمير المقهى الذي يقارب عمره 80 عاماً عن والده. وخصّص لنفسه طاولة ومقعداً عند المدخل، يرحّب بزبائنه من المسنّين، ممازحاً أحدهم بالقول: "أنت الستّينيّ أصغر روّاد المقهى". ويستعيد ذكريات طاولة الزهر وأبناء العاصمة "الذين احترفوا قديماً هذه اللّعبة بما تمثّله من حظّ وحنكة، فكان أن انتشرت في المقاهي وعلى الأرصفة، قبل أن تصبح اليوم محصورة ببعض المقاهي وبالمنازل بالدرجة الأولى. وما زلنا نراها على بعض أرصفة المخيّمات الفلسطينيّة في بيروت، لكنّني أعتقد أنّها موجودة بشكلٍ أكبر في مدينتَي صيدا (جنوب) وطرابلس (شمال)". يضيف: "أظنّ أنّ أصل هذه اللّعبة تركي وقد يكون فارسياً، لكن الأكيد أنّ الجيل القديم كان يحترم اللعبة بقواعدها وأصولها، تماماً كما كان يحترم شريكه، فلا يشتم عرضه ولا يهينه ويجرّح به". 
في مقهى آخر، يجلس الخمسينيّ محمد شخاشيرو ويده على طاولة الزهر، بانتظار وصول شريكه. الأب لثلاثة أولاد يقول لـ "العربي الجديد": "تعلّمتُ لعب الطاولة من والدي حين كان عمري 16 عاماً. وجدتُ فيها باباً للتسلية وتمضية أوقات الفراغ. أيام الشباب كنتُ ألعبها في المنزل مع والدي وإخوتي، لكنّني ألعبها حاليّاً في المقهى مع الأصدقاء بشكلٍ يوميّ". يتابع: "يستغرق كل دقّ (دور) نحو نصف ساعة أو أكثر. نتبادل الأدوار ونختبر لحظاتٍ من التحدّي والمتعة والتشويق. هناك مَن يستشيط غضباً ويشتم، وهناك مَن يحافظ على هدوء أعصابه وينافس برقيّ. شكّلت هذه اللّعبة خلال جائحة كورونا منفساً لتخطّي الحجر الصحي والإقفال العام، إذ كنّا نلعبها في المنزل، فلا شغلة ولا عملة، قاعدين نتسلّى بالزهر".
ويلفت شخاشيرو إلى أنّ "البعض يفضّل لعب الطاولة خلال الفترة الصباحيّة، في حين يخصّص البعض الآخر أمسيته أو عصرونيّته (فترة بعد الظهر) للعب الطاولة"، مختزلاً تاريخ اللّعبة بالقول: "أعرف أنّها تركية، ولا أعرف الكثير عن نشأتها".
حديثاً، دخل فجر ياسين عالم طاولة الزهر. ويقول لـ "العربي الجديد": "تعلّمتُ اللّعبة منذ ثلاث سنوات من خلال زيارتي لأحد مقاهي بيروت، حيث كان عدد من كبار السنّ يلعبونها بشكلٍ يوميّ. في البداية، كنتُ ألعبها مرة في الأسبوع، ثم أصبحتُ ألعبها بشكلٍ يوميّ، كونها تبثّ روح التحدّي والحماس وتدعو إلى التفكير والتركيز واغتنام الفرص بحكمةٍ وذكاء".
ويشير ياسين إلى أن اللعبة أصبحت "مع مرور الوقت جزءاً من التراث اللبناني، وقد تمسّك بها كبار السنّ. وباعتقادي، فإنّ الجيل الجديد لا تعنيه اللّعبة بالشكل الذي تعنيه لنا، إذ يفضّل التطبيقات الهاتفية والألعاب الإلكترونيّة".
ولا تنتهي عبارات ومصطلحات طاولة الزهر، فهي على اختلافها وتنوّعها بين القرى والمدن اللبنانيّة، تبقى راسخةً بين الأجيال، وتحفّز كلّ من يسمعها على استيضاح معانيها ومقصدها. فلا يتوقّف معظم اللاعبين، وقبل خسارة شريكهم، عن تنبيه الآخر بأنّه سينام الليلة "طَبّ" (على وجهه). 

وفي مبارزتها مع شقيقها، تصرخ الشابّة غدير مطر باعتزازٍ وفخر، قائلةً: "أخذتَك خشب (أي 3 مقابل صفر)"، بمعنى الإمساك بحجر المنافس عند بيت الخشب (نقطة الانطلاق)، وهو نوع من الشماتة بخسارته. ولا تتوقّف عن الكلام وإطلاق عبارات التحدّي قبل رمي الزهر، كقولها "يلّا دشش"، في حال كانت بحاجة إلى هذا الرقم للفوز، وتعاتب الزهر عندما يخذلها، مخاطبةً شريكها أو شريكتها بالقول: "حظّك بالسماء" أو "الحظّ عم يلعب اليوم مش إنت" أو "أكيد عامل سِحر للزهر". في حين تقول لدى فوزها على صديقتها "ربحتها مارس، أكلت 2 مارس"، بمعنى أنّها فازت عليها 2 مقابل صفر. 
وتروي مطر كيف يثير شقيقها غضب والدهما أثناء لعب الطاولة، كونه يتروّى كثيراً قبل تحريك أحجاره ويجري عمليّاتٍ حسابيّة دقيقة، تدفع بالوالد إلى الاستهزاء بالقول: "يلّا خلّصنا... شو بدها دكتوراه؟!". أما شقيقها، فيتقصّد الشماتة عندما يأتي الزهر كما تشتهيه سفنه، قائلاً: "شو حلوة"، بمعنى أنّ الخصم قد وقع في شباكه.

المساهمون