ضَهَب

30 نوفمبر 2022
التعدين مصدر رزق لسوادنيين منذ سنوات (إريك لافروغ/ Getty)
+ الخط -

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي زرت أحد زملائي في الدراسة، ودخل علينا والده التاجر في جنوب السودان ليطلب منا مساعدته في فرز أحجار صغيرة بين حبات بن كان أفرغها من أحد الجوالات المصطفة في غرفة مفروشة بألواح خشب متراصة بإحكام. همس لي زميلي أن اللمعة في الأحجار هي ذهب خالص يبادله والده بذرّات ملح الطعام لسكان ذلك الجبل البسطاء. وبعد ذلك علمت أنه يقوم بالمعالجات اللازمة منزلياً بمساعدة خبير في المجال، وينفذ عمله باستخدام مادة خطيرة يمنع تداولها، ما عنى لي يومها أن الأمر يخالف القوانين.
سنوات طويلة قبل أن تستشري حمى التعدين، ويشتغل بالأمر معظم الفئات، تنقيباً ومعالجات في وضح النهار، وفي أطراف الأنهار، وقرب المساكن، باستخدام ذات المادة المحرمة، ومواد أخرى أضرت بالبيئة أيما ضرر، تحت سمع وبصر المسؤولين. وطالت الأضرار جوانب اجتماعية وثقافية جراء انتقال المعدّنين من مكان إلى آخر، والذين باتوا يعرفون بـ "الدهّابة"، و"الضَهَّابة" بالنسبة إلى البعض الذين يقولون "الضَّهَب" بمعنى البحث عن الذهب، وكأنهم أرادوا أن يحيلونا إلى التنقيب في مناجم اللغة، لنربط بين الحجارة المحمّاة، والكشف عن القبح، إذ يقول العرب "ضَهَّبَ اللَّحْمَ بمعنى شَوَاهُ عَلَى حِجَارَةٍ مُحْمَاةٍ، فَهُوَ مُضَهَّبٌ/ و"ضاهَبَه" أي كاشفه بالقبيح. أما "الضَّهَب" في لغتنا الدارجة فيعني التوهان والضياع في الفيافي. و"الضَّهَبَان" هو التائه. وهكذا يتوه المعدِّنون الأهليون في الأودية البعيدة وفي الفيافي، حتى يفقد كثير منهم حياتهم عطشاً وجوعاً، ذلك غير ما يصيب كثيرين من أمراض جراء الاستخدام غير المرشد لمادتي الزئبق والسيانيد، وما أشتق من مواد خطرة أخرى لاستخلاص المعدن.
بات نشاط التعدين يغطي كل ولايات السودان، بل عبر بعض المعدنين إلى دول الجوار، مثلما عبر الحدود ذاتها معدنون أجانب. 

موقف
التحديثات الحية

وفي إحصاءات متواضعة للمعدّنين يتم الحديث عن أكثر من مليوني شخص ينتجون حوالي 80 في المائة من كمية الذهب الإجمالية المستخرجة في البلاد، بيد أن العدد أكبر من ذلك بكثير، فقد أصبح التعدين مصدر رزق لقطاع واسع من المواطنين رجالاً ونساء في ظل الركود الاقتصادي. ورغم صدور قرار عام 2019 يحظر استخدام المواد الخطرة المستخدمة في التعدين الأهلي، لكن القرار لم ينفذ إلا بشكل محدود، واستمر عمال المناجم في ممارسة نشاطاتهم في مناطق معزولة بعيدة.
قبل أيام جاءني من ينقل شكوى إحدى المناطق المتأثرة بالتعدين، وأبلغني أنه بعد أن كانت المظاهر تتلخص في نفوق الحيوانات والطيور الداجنة، وحالات الإجهاض، والأمراض الغريبة، بدأ الحديث شيئاً فشيئاً عن تشوُّه الأجنة باعتباره من الأمور شبه العادية، ثم وصل الأمر إلى مرور أكثر من عام من دون أن يكون هناك مولود جديد في تلك المنطقة، ما أصاب الناس بالهلع، وكان من الطبيعي في ظل الإهمال الرسمي، واستئساد أصحاب الشركات والفقر وقلّة الحيلة ألا يجد معظم السكان حلاً سوى هجرة أرضهم وزروعهم. وما يهم الآن، أن الأمر منذ ذلك الحين بات موضع دراسة لجهة مختصة بالشأن بدأت خطواتها المتعثرة بفضل المماحكات الرسمية، ووضع العراقيل في طريقهم.

(متخصص في شؤون البيئة)

المساهمون