لم تعوّق التشوّهات الخلقية في قدمَي شيماء قدور ويدَيها المرأة التونسية الشابة عن تحقيق حلمها لا بل حلمَيها، وها هي اليوم تعلّم العزف على آلة القانون وتدرّب على رقص الباليه في تونس.
على رؤوس أصابع قدمَيها تقف شيماء بثبات، قبل أن تقفز وتكمل رقصها بحركات خفيفة متناغمة تشدّ المتفرّجين. هي راقصة باليه، وكما غيرها من مؤديات هذا النوع من الرقص، أتقنت الوقوف طويلاً على رؤوس أصابع قدمَيها. وهذا ليس بأمر سهل، بل هو شاق، إذ يتطلّب الرقص هذه الوضعية دائماً.
لكنّ أحداً لا يعلم أنّ لتلك الأصابع التي تقف عليها شيماء قصة معاناة منذ الطفولة. فقد وُلدت شيماء قدور البالغة من العمر 28 عاماً، مع أصابع قدمَين بعضها ملتصق ببعض، ولم يمكّنها ذلك من تحقيق حلمها في رقص الباليه لولا عمليات جراحية عديدة خضعت لها على مدى سنوات، إلى حين تمكّنت من الوقوف من دون معاناة والرقص بأريحية وتحقيق حلمها برقص الباليه. واليوم هي تُدرّب شيماء الأطفال على هذا الفنّ.
لم يكن التشوّه الخلقي محصوراً فقط في أصابع قدمَيها. فهي وُلدت مع أصبعَين ملتصقََتين في كلّ يد. لكنّها لم تخضع لأيّ عمليات جراحية في يدَيها. وعلى الرغم من تلك الالتصاقات راحت تتعلّم منذ الثامنة من عمرها العزف على القانون، لتُعَدّ اليوم عازفة بارعة على تلك الآلة الموسيقية. يُذكر أنّ حال يدَيها لا تعيقها عن استخدام كلتَيهما بشكل عادي وإنجاز ما يترتّب عليها من دون عناء.
ولم تكن شيماء تعلم أنّها سوف تصبح في يوم بارعة في العزف على آلة القانون، وتُشارك في عروض موسيقية مختلفة. وهي كانت قد أصرّت على الرغم من كلّ التنمر الذي تعرّضت له منذ طفولتها على تحقيق حلمها هذا كذلك، إلى جانب رقص الباليه. وهكذا، هي اليوم أستاذة موسيقى ومدرّبة رقص.
تقول شيماء لـ"العربي الجديد" إنّ "التشوّه الذي أعاني منه في أصابع يدَيّ جعلني أتعرّض لتنمّر شديد من قبل من حولي، سواء أكانوا كباراً أم صغاراً. وقد آلمني الأمر كثيراً. كذلك تعرّضت لتنمّر كبير ورفض في مجال رقص الباليه، بسبب التشوّه في أصابع قدمَيّ. فثمّة أساتذة رقص رفضوا وجودي في بعض حصص التدريب أو طلبوا مني إخفاءها في حال زيارة أو مشاركة أجنبية. فهؤلاء لم يؤمنوا بقدرتي على تعلّم الرقص وتحقيق النجاح. لكنّني عزمت على مواصلة تعلّم رقص الباليه تماماً كما هي الحال مع عزف القانون".
وتوضح شيماء أنّه "على الرغم من الألم الجسدي (إلى جانب ذلك النفسي الذي أفصحت عنه كذلك) الذي كنت أشعر به في قدمَيّ بسبب تشوّه في أصابعي وبسبب العمليات الجراحية التي خضعت لها، تعلّمت الرقص وأتقنته كأيّ راقصة باليه وُلدت بقدمَين طبيعيّتَين". وفي هذا الإطار، تلفت شيماء إلى أنّ "رقص الباليه يُعَدّ من أصعب أنواع الرقص، وثمّة من يرقص وتدمى أصابع قدمَيه بعد انتهاء العرض، حتى وإن لم يكن يعاني من أيّ تشوّه أو إعاقة بسيطة في القدمَين".
قبل ستّة أعوام، أنشأت شيماء مركزاً لتعليم الأطفال الرقص والعزف الموسيقي، خصوصاً الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة. أمّا هدفها من ذلك فـ"جعلهم يؤمنون بقدراتهم المختلفة وإثبات مؤهّلاتهم في الفن، على الرغم من أيّ تشوه أو إعاقة يعانون منها"، كذلك هي تدفعهم إلى "تحدّي أيّ تنمّر قد يتعرّضون له في المدرسة أو في حياتهم اليومية بسبب تشوّههم أو إعاقتهم، مثل ذلك الذي كنت أتعرّض له في صغري". وتشدّد على أنّ "الذين يعانون من تشوّهات أو إعاقات يحتاجون إلى دعم معنوي ونفسي لتحفيزهم على النجاح".
وتشير شيماء إلى أنّ "اختلاط أطفال من دون أيّ تشوّهات أو إعاقات مع غيرهم ممّن يعانون من مشكلات صحية من هذا القبيل في مركز واحد يجعلهم يتعلّمون قيماً إنسانية عديدة، لا سيّما عدم التنمّر والسخرية من الآخرين بسبب تشوّه أو إعاقة. وبالتالي ينشأون على مبدأ قبول الآخر باختلافاته مهما كانت".
وعلى الرغم من أنّ الإقبال على مركزها محدود، فإنّ شيماء لم تيأس من تحقيق ما تصبو إليه ولو بعدد بسيط من الأطفال الملتحقين بالمركز. لكنّها نجحت في تلك الأعوام الستّة في تدريب عشرات الأطفال على العزف والرقص، علماً أنّ العقلية السائدة في مجتمعاتنا لا تؤمن بأهمية تعليم الرقص أو الموسيقى لتنشئة الأطفال، أو اللجوء إلى الفنون كعلاج نفسي يخفّف من حدّة أي ضغط قد يتعرّض له بعضهم.
بعد تحقيق حلمَيها، راحت شيماء تشارك اليوم في مهرجانات فنية مختلفة. فتقدمّ عروض عزف منفرد بأصابع يدَين مشوّهة، على آلة القانون التي لا تتقن عزفها إلا قلة من الناس، ليس في تونس فحسب، نظراً إلى صعوبتها، فهي تتطلّب حركات دقيقة.