تبدو مباراة الكريكت بين فريقي الهند وباكستان يوم 28 أغسطس/آب الماضي، شرارة أعمال الشغب التي تحوّلت إلى عنف لم يسبق لمدينة ليستر البريطانية أن عاشته، لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك.
لا تحذيرات خاصة لمن يريد السفر من لندن إلى ليستر. فالطرق سالكة، ورحلات القطارات متواصلة حسب المعتاد. ساعة وربع ساعة فقط تفصل العاصمة البريطانية عن المدينة الصغيرة التي يقطنها 560 ألف نسمة.
زيارة قصيرة لشارع "غرين لين رود" الرئيسي في المدينة تجعل الزائر يشعر بأن أغلب السكان من الأقليات الدينية، بينما الواقع أن 32 في المائة منهم مسيحيون، ويشكل المسلمون 18 في المائة، والهندوس 15 في المائة، والسيخ نسبتهم لا تتجاوز 4.5 في المائة، والبوذيون 1.4 في المائة، ونحو 23 في المائة من السكان ليس لديهم أي انتماء ديني، والمدينة الصغيرة تتسع للجميع، وهي معروفة تاريخياً بتنوّعها الديني والثقافي.
كررت الحكومة البريطانية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، التهوين من خطورة التوترات التي شهدتها ليستر، وأصرت على أن مباراة الكريكت التي جرت يوم 28 أغسطس/آب الماضي، هي السبب الأساسي، وأن الأسباب الأخرى الأبعد والأعمق ليست مهمة.
لم يقتصر هذا الإصرار على الحكومة وحدها، بل امتدّ إلى أصحاب المحال التجارية المكتظّة في "غرين لين رود"، الذين يرفضون الحديث عما جرى عقب المباراة، والأحداث التالية لها.
لم تكن مهمة "العربي الجديد" سهلة في "استنطاق" بعض شهود العيان على أعمال العنف التي وصفت بأنها كانت "مرعبة"، وخصوصاً عند تقاطع شارعي "غرين لين رود" و"باغريف ستريت". كأنّ أصحاب المحال اتّفقوا مسبقاً على تبنّي ذات الرد: "لا أعرف. كان محلي مغلقاً ليلة السبت. لم أكن في الحيّ أصلاً". لكن لا يصعب على أي زائر للشارع الطويل إدراك "الرعب" الذي عاشه هؤلاء، حتى وإن قرروا التزام الصمت.
كان الشارع المكتظّ عادة بمحلّاته المتلاصقة، مقفراً نسبياً، وكميات البضائع المفروشة على الأرصفة خجولة، رغم أنها كانت تبتلع الرصيف قبل أحداث الشغب، لكنها تراجعت، أو اختبأت خوفاً.
قلّة من أصحاب المحال وافقوا على الحديث بعد محاولات حثيثة، وربما كانت جنسية صحيفتنا عاملاً أساسياً في الارتياح الذي أبداه البعض. يمكنك القول إن الشارع الضيّق الطويل يشبه كثيراً من شوارع الشرق الأوسط، إذ تهيمن على أهله الريبة من الآخر، والخوف من المجهول، وخشية الظلم.
كان لافتاً تحفّظ أصحاب المحال من أصول هندية عن رواية ما شاهدوه خلال أحداث الشغب الأخيرة، أو ما جرى قبلها عندما فاز الفريق الهندي على الباكستاني في مباراة الكريكت، حين خرجت مجموعة من الملثّمين بثياب سوداء تهتف: "يحيا الإله رام"، وهي عبارة دينية هندوسية تحولت عبر جماعة "هندوتفا" المتطرفة إلى دعوة لإعلان "الحرب" على الأقلية المسلمة.
ولما كانت هذه العبارة التي تنتمي إلى "خطاب الكراهية" عابرة للقارات، فإن الخوف من سماعها انتقل عبر القارات، ليبرز الخوف المحفور في الذاكرة الجمعية للمسلمين الذين قرروا الهجرة إلى بريطانيا هرباً من التهميش والإلغاء.
التقينا صاحب محلّ قماش ستينياً من أصول باكستانية، وقد جاء الرجل إلى مدينة ليستر قبل أربعين عاماً. كان متردّداً في الحديث عمّا جرى، لكن هوية "العربي الجديد" شجّعته، كذلك فإن انضمام ابنه البالغ من العمر 40 سنة إلى الحديث ساعده في التحرر من مخاوفه.
يقول الرجل إنه لم يشعر بهذا القدر من الخوف طوال السنوات الأربعين الماضية، وللمرة الأولى أدرك أنه يحمل الهوية الباكستانية إلى جانب هويته البريطانية، مشيراً إلى أنه شعر عند مشاهدة الملثّمين الذين اجتاحوا الشارع، وسماع هتافاتهم، بأنهم "جرّدوني من هويتي الإنكليزية، وأضحيت باكستانياً غريباً دخيلاً على الحيّ الذي أعيش فيه منذ عقود".
الحرب المزعومة على الإرهاب تدعم الجماعات اليمينية المتطرفة
ابنه الأربعيني كان أكثر وضوحاً في التعبيره عن رأيه، وكان يكرر استخدام "RSS" التي تعبر اختصاراً عن فيلق "المتطوعين الوطنيين" القومي اليميني المتطرف، الذي تأسّس في عام 1925 على مبدأ الدفاع عن القومية الهندوسية منذ أيام الحكم البريطاني، وهي المنظمة الأم للحزب الهندي الحاكم "بهارتيا جاناتا" الذي يتزعمه رئيس الحكومة ناريندرا مودي.
يقول الابن إنه ضجر من التنميط والأحكام المسبقة، وإن "الحرب المزعومة على الإرهاب" أسهمت في ازدهار هذه الجماعة اليمينية المتطرّفة في بلد كبريطانيا، والعنف الذي يرتكب بعد أي مباراة يُتّهم به المسلمون وحدهم، وغالباً هم من يدفعون ثمن الحروب والصراعات، سواء في بلدانهم الأصلية، أو في البلدان التي لجأوا إليها.
ومع أن أحداث العنف التي شهدتها المدينة، حدثت عند التقاطع الذي يفصل جهة اليمين حيث أغلبية المحال التجارية لبريطانيين من أصول مسلمة عن جهة اليسار حيث محال الهندوس، إلا أن شارع "غرين لين رود" ليس مثالياً للبحث في عمق الأزمة، إذ إنه مختلط إلى حدّ تصبح فيه الشكوى من الآخر محرجة، إن لم تكن مثيرة للريبة أو الذعر.
يبدو شارع "بيلغراف" أكثر وضوحاً، إذ تطغى عليه الأقلية الهندوسية، ويتوسّطه معبد "شيفالايا" الشهير، وفي حديقته الصغيرة نُصب تمثال للمهاتما غاندي، وحفرت على قاعدته مقولته: "يجب أن نكون التغيير الذي نريد رؤيته".
حاول هذا المعبد، وغيره من المعابد الكثيرة المنتشرة في ليستر، مع المساجد أيضاً، لعب دور الوسيط في الأحداث الأخيرة، بالتشجيع على التزام الهدوء، وعدم الانجرار وراء محاولات العبث بهوية المدينة المسالمة. لكن المهاتما غاندي يبدو عاجزاً عن التأثر، وهو الذي اغتيل في عام 1948 على يد عضو سابق في فيلق "المتطوعين الوطنيين" RSS.
وتحدّث إلينا أحد المارّة من أصول هندية، لكنه كان أكثر حذراً في سرد تفاصيل أحداث العنف التي شهدها الحيّ، ونفى بشدّة أن تكون العصبية القومية سبباً فيه، كذلك أكد أن سياسة رئيس الحكومة مودي لا تنحرف إلى اليمين، أو إلى معاداة الأقلية المسلمة، بل على العكس يرى فيه "رجلاً وسطياً منفتحاً، وأسّس اقتصاداً متيناً، وشجّع على الاستثمار، وساهم في الازدهار"، بينما ما حدث بالنسبة إليه لا يتعدّى "فورة مراهقين بعد مباراة كريكت".
فجأة قاطعه شاب عشريني كان برفقته ضاحكاً: "كان ثمة رجال في الستين من عمرهم ذلك المساء، ألا تذكر؟ هل هؤلاء مراهقون؟".
مهمّة البحث عن هوية المشاركين في مسيرة الصراخ العنيف تبدو مستحيلة في ظل تعتيم إعلامي استثنائي، وتعتيم حكومي متواصل، إضافة إلى أن المشاركين كانوا ملثّمين، رغم أن بعضهم كانوا مسلّحين حسب رواية الشرطة وشهود قلائل.
المسلمون ليسوا وحدهم القلقين مما قد تؤول إليه الأمور، بل كثير من الهندوس أيضاً، وخاصة كبار السن. إذ لا تحاكي الفئة اليمينية المتطرّفة تطلّعاتهم.
يقول الناطق باسم اتحاد المنظمات الإسلامية في ليستر، سليمان نجدي، لـ"العربي الجديد"، إن "السنوات الخمس الماضية، شهدت موجة جديدة من المهاجرين الشباب، جاء معظمهم من منطقة (دامان وديو)، أو الهند البرتغالية، وكانوا يحملون وثائق سفر أوروبية سهّلت عبورهم إلى بريطانيا قبل أن يفرض (بريكست) إجراءات أكثر صرامة".
ويضيف نجدي: "هؤلاء، إلى جانب تبنّيهم لخطاب يميني متطرف، لم يستطيعوا الاندماج في مجتمع ليستر، ولا في المجتمع البريطاني، ولا حتى في مجتمعهم الهندوسي، لما يحملونه من أفكار مختلفة، وعادات متناقضة مع عادات الأجيال التي وصلت قبلهم، فمعظم من هاجروا في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من الهند، لم تكن بريطانيا وجهتهم الأولى، بل بلدان أخرى منها بلدان أفريقية، وبالتالي ثمة جيل ولد كأقلية، ثم انتقل إلى بريطانيا، وظلّ أقلية. أما المهاجرون الجدد، فقدموا مباشرة من الهند، حيث كانوا أكثرية، ثم وجدوا أنفسهم فجأة أقلية، وهذا يربك الهوية والانتماء".
تعتقل الشرطة البريطانية حالياً أكثر من عشرين متورّطاً في الأحداث، لكن الشغب والعنف انتقلا إلى مدن مجاورة، منها بيرمنغهام، حيث لا يوجد تمثال للمهاتما غاندي.
يبقى أن الحكومة البريطانية لم تستشعر الخطر عندما هاجم مئات الملثّمين المرتدين ملابس سوداء بالأسلحة البيضاء مطعم "شيف ساجار" في ليستر، في عام 2020، كذلك لم تقرأ تحذيرات "هيومن رايتس ووتش" من أن الحزب الهندي الحاكم منذ وصوله إلى السلطة في 2014، اتّخذ إجراءات لإضفاء الشرعية على التمييز ضد الأقليات الدينية في داخل الهند وخارجها.