بينما تظهر حكومة اليمين بزعامة جورجيا ميلوني من حزب "إخوة إيطاليا"، تشدداً في استقبال مزيد من المهاجرين، ترتفع أصوات أخرى مطالبة بتخفيف القيود من أجل التغلب على الحاجة الماسة إلى الأيدي العاملة.
ويشير جهاز الإحصاء الوطني الإيطالي "استات" إلى الشوارع الفارغة من الشباب، والقرى المهجورة تقريباً في الأرياف، في حين حذرت صحيفة "كورييري ديلا سيرا" في تقرير في مايو/أيار الماضي، من استمرار انخفاض معدلات المواليد وارتفاع متوسط العمر في البلاد، مؤكدة أن الأمر يعد "أزمة خطيرة".
وارتفع متوسط عمر سكان إيطاليا خلال العقدين الماضيين، من 38 إلى 44 سنة، في حين انخفض عدد السكان في الفئة العمرية بين 15 إلى 64 سنة بأكثر من 750 ألف شخص خلال السنوات الخمس الأخيرة، وحسب جهاز الإحصاء الإيطالي، فإن أعداد المواليد في انخفاض مستمر، وشهد عام 2022، أقل من 400 ألف ولادة، ما اعتبر "انخفاضاً تاريخياً"، إذ سجلت 7 ولادات في مقابل 12 وفاة سنوياً لكل ألف نسمة. وإذا استمر المسار على نفس المنوال، فستفقد إيطاليا بحلول 2050، ملايين السكان، لينكمش العدد إلى 55 مليون نسمة من نحو 59 مليوناً في الوقت الحالي، وهؤلاء نحو ثلثهم في سن التقاعد.
وفي العام الحالي، تشهد البلاد نقصاً حاداً في أعداد العمال، وهناك نحو نصف مليون وظيفة شاغرة، وفي قطاعات عدة من بينها الرعاية الصحية؛ ودور رعاية كبار السن، وفي قطاعي السياحة والزراعة، إلى جانب وظائف تحتاجها قطاعات الهندسة وتكنولوجيا المعلومات.
ولا فارق في معدلات تراجع المواليد بين الشمال الثري والجنوب الأفقر، والأسباب تتعلق بمستوى الدين العام الأعلى بين دول الاتحاد الأوروبي بعد اليونان، والذي وصل إلى 142 في المائة من الناتج القومي الإجمالي، ولم يسهم وصول ميلوني وتحالفها القومي المتشدد إلى السلطة في سبتمبر/أيلول 2022، في تخفيف وطأة الانعكاسات السلبية على المجتمع، ما يعني أن المديونية لن تتراجع من دون زيادة الإنتاجية، والتي تحتاج إلى مجتمع فتي، بينما في الوضع الحالي سيزيد الإنفاق العام على المعاشات التقاعدية ورعاية المسنين، وسيكون هناك عدد أقل من الأشخاص في سوق العمل.
ويؤكد الباحث في "مركز أبحاث سوق العمل"، فرانشيسكو سيغيزي، على أن "المخرج من المأزق يتمثل في تخفيف التشدد حيال الهجرة، فعلى العكس، يجب استيراد العمالة. الحاجة إلى مزيد من المهاجرين تأتي أيضاً على خلفية أن العديد من الوظائف لا يفضل الإيطاليون القيام بها".
وتتفاقم المشكلة مع توجهات حزب "إخوة إيطاليا"، فمنذ فوز ميلوني بالانتخابات في العام الماضي، وهي تقدم تيارها كحام للتراث الثقافي الإيطالي، وذلك باعتبار الهجرة تهديداً، وخاصة المهاجرين القادمين من شمال أفريقيا ودول جنوب الصحراء الكبرى. وتضع سياسات مناهضة الهجرة ميلوني في مأزق الاستجابة لحاجة أسواق العمل عبر السماح للمهاجرين بدخول البلد على عكس وعودها للناخبين الذين صوتوا لها بناء على خطابها المتشدد. ويتكرر في كواليس السلطة الإيطالية أن الهجرة الفتية ستوفر العمالة، ما يمكن أن يسهم في خفض الدين العام، وبالتالي تتزايد الرغبة في وصول المهاجرين، خصوصاً من تونس ومصر وسورية، أو بنغلادش وباكستان، وهؤلاء في أغلبهم من الشباب في سن العمل. لكن إعلان ميلوني الحرب على "تهريب البشر" عبر البحر المتوسط، سواء بسلسلة قوانين محلية أو اتفاقيات مع دول العبور، يتعارض مع رغبة بعض القطاعات الاقتصادية في غض النظر عن قدر من الهجرة السرية.
وطرح وزير الزراعة، فرانشيسكو لولوبريجيدا، قبل أسابيع، فكرة تأشيرات العمل في قطاعات بعينها تحتاج إلى عمال، من بينها القطاع الزراعي الذي يعاني من نقص اليد العاملة، وتشير الأرقام الرسمية إلى أن ربع مليون مهاجر تقدموا خلال الأشهر الماضية من أجل الحصول على رخصة عمل، ويضغط لولوبريجيدا على ميلوني من أجل دمجهم سريعاً في الأسواق لزيادة الإنتاجية.
لكنه بالتزامن مع تأييد نظام تأشيرات العمل، يؤكد أن تقلص إنجاب الإيطاليين للأطفال لا يجب أن يدفع لقبول فكرة "الاستبدال العرقي"، وهي الفكرة التي يتسلح بها أغلبية مرتكبي الجرائم بحق المهاجرين في الدول الغربية.
وتعرض لولوبريجيدا لانتقادات، إذ وصفت زعيمة المعارضة من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، إيلي شلاين، خطاب الوزير بأنه "علامة على أفكار التفوق العرقي الأبيض"، في إشارة إلى الشعارات النازية.
لكن ميلوني لم تعلق على السجال الذي خلقته تصريحات وزير الزراعة، وقامت بطرح حلول مستندة إلى توسيع مشاركة المرأة الإيطالية في سوق العمل قبل الخوض في استيراد العمالة من الخارج، وشددت على أنه يجب العمل على زيادة معدلات الولادات.
ورغم أن السجال يتركز على اعتبار المهاجرين خطراً على الثقافة والتقاليد الإيطالية، وخصوصا المهاجرين المسلمين، يروج اليمين المتشدد فكرة استقدام المزيد من المهاجرين لمواجهة نقص السكان وتراجع الخصوبة. ويقدر عدد الأجانب في إيطاليا، وفق أرقام الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، بأكثر من 5 ملايين نسمة، والجنسيات الأربع الكبرى هي القادمون من رومانيا بنحو مليون و83 ألفاً، وأكثر من 420 ألفاً من الدول المغاربية، ونحو 420 ألفاً من ألبانيا، بينا الصينيون أكثر من 300 ألف.