تعدّ مراسم الحداد واحدة من أهم الطقوس الكونفوشيوسية قداسة في الصين، ويتوجب على ذوي الميت الالتزام بكل تفاصيلها الدقيقة باعتبارها معياراً لدرجة الوفاء والتكريم. وبحسب التقاليد الشعبية، إذا لم تكن رحلة المتوفى إلى مثواه الأخير مصحوبة بصرخات مدوية وعويل شديد، فإن ذلك يشير إلى قلة احترام وعدم تقدير. لذلك، وتجنباً للإحراج الناجم عن جنازة بلا دموع، يقوم أفراد أسرة الميت باستئجار خدمات امرأة تعرف باسم "سيدة الحداد"، تتكفل بمهمة البكاء والصراخ وإثارة المشيعين بشحنات من الحزن وألم الفراق. وبحسب عادات الصينيين القدماء، تستمر فترة الحداد لمدة خمسة أيام إذا كان الميت مسناً، وثلاثة أيام إذا كان شاباً. وخلال أيام الحداد، تتردد المرأة على ذوي الميت لفترة لا تقل عن ست ساعات في اليوم الواحد من أجل البكاء والنحيب، ويتخلل ذلك فقرات تردد فيها أغاني حزينة ومرثيات من التراث الصيني، ويشترط أن ترتدي الملابس البيضاء التي تشير حسب الثقافة الصينية إلى حالة الحداد.
وتتذكّر تسي خوا (32 عاماً) حين توفيت جدة أمها قبل أكثر من عقدين، والأجواء التي رافقت مراسم الحداد آنذاك. وتقول لـ"العربي الجديد": "كانت جدتي واحدة من أكبر المعمرين في المنطقة التي كنا نقيم فيها بمقاطعة غوانغدونغ الجنوبية. وحين توفيت كانت تبلغ من العمر 96 عاماً، بينما لم يتجاوز عمري عشر سنوات، وأقامت العائلة مراسم عزاء كبيرة استمرت خمسة أيام، شهدت تقديم الولائم للمعزين بمعدل ثلاث وجبات في اليوم الواحد. كان الأمر شاقاً ومجهداً. لكن ما لم يغادر ذاكرتي مشهد المرأة التي تم استئجارها للقيام بمهمة البكاء. كانت امراة بملامح مخيفة تجسّد الحزن، ولا يزال صوتها يتردد في أذني. كانت تصرخ كأنها إبنة المتوفية، وراحت تلوح بيديها بمناديل بيضاء وتحرك جسمها كأنها أفعى. تارة تستلقي على ظهرها حين تخرّ قواها، وتارة تنتصب كأنها شاهد قبر". تتابع: "في إحدى جولات النحيب، حدقت بأحد الأطفال، ثم ذهبت إليه وحملته بين يديها وراحت تصرخ وتردد كلمات لم أكن أفهمها. كان المشهد مخيفاً وكانت لديها قدرة هائلة على التأثير في الآخرين. في تلك اللحظات لم يتمالك أحد دموعه. جعلتنا نشعر بوطأة الموت والوحشة التي يخلفها في نفوس الأحياء".
تقول يي فانغ، وهي امرأة قروية تحترف مهنة البكاء في مراسم الحداد منذ 15 عاماً: "عملت في السابق بالمزارع والحقول، إلا أن الدخل لم يكن كافياً لتغطية النفقات اليومية. أنا أم لثلاثة أبناء، لذلك قررت أن أبحث عن وسيلة أخرى لجني المال، فأشارت عليّ صديقة لي تعمل في هذا المجال أن أرافقها في بيوت العزاء كي أتعلم منها. لم يكن الأمر صعباً، وخصوصاً أن لدي كل مسببات البكاء، وبعد جلستين فقط أتقنت المهنة وبدأت أقدم نفسي على هذا الأساس".
وتوضح في حديث لـ "العربي الجديد" أنها كانت تجني في اليوم الواحد في بداية عملها حوالي 800 يوان (نحو 115 دولاراً)، وذلك يتوقف على المستوى المادي لذوي الميت. فإذا كانت الأسرة ثرية تغدق عليها الأموال، وتزداد الطلبات الخاصة التي لا ينص عليها عقد الاتفاق، مثل أداء موشح حزين أو أغنية محددة، أو الإفراط في البكاء أمام الأقرباء من الدرجة الأولى، أو تمديد مدة النحيب لساعات إضافية.
وتلفت يي فانغ إلى أنه بعد خمس سنوات من العمل وحدها، جلبت فريق عمل كاملا وأسست شركة تشمل تقديم جميع الخدمات الخاصة بهذه المناسبة، بدءاً من تأجير القبور وملابس الدفن وحرق الجثث، وأدوات الجنائز، مروراً بتقديم الطعام والمشروبات الروحية، وصولاً إلى حلقات النحيب التي أصبحت تقدم بأداء جماعي (10-25 شخصاً) أقرب إلى الفرق الموسيقية وتشمل البكائين والراقصين والعازفين وحتى المعزين الذين يحضرون بملابس مدنية في حال لم تشهد الجنازة إقبالاً كبيراً.
توضح الباحثة الاجتماعية ليوان تشوان لـ "العربي الجديد" أن مهنة سيدة الحداد لم تكن بهذه الصورة التي هي عليها اليوم، وكان المجتمع ينظر إليها في خمسينيات القرن الماضي بدونية، وكانت المرأة التي تفعل ذلك لا تجرؤ حتى على النظر في أعين المعزين، وتكتفي بالجلوس على كرسي صغير وتبدأ بالنحيب وهي مطأطئة الرأس بسبب الشعور بالدونية، حتى أنه كان يعيّر الزوج بزوجته إذا ما كانت تحترف هذه المهنة، وإذا كانت عزباء لا يتزوجها أحد خجلاً من عملها.
تضيف: "اليوم، ومع تحول الصين إلى دولة اقتصادية عظيمة، بات المال هو المعيار والمحرك الأساسي للسلوك الاجتماعي، ونظراً لأن هذه المهنة باتت تدر أمولاً طائلة على أصحابها، لم يعد أحد يخجل منها. على العكس تماماً، هناك إقبال كبير من القرويات على احترافها، وأصبحت صناعة في حد ذاتها، وهناك شركات ومكاتب ووكالات لتوفير هذه الخدمات، بل أصبح استئجار سيدة الحداد في مراسم العزاء وجاهة اجتماعية تستعرض فيها العائلات الثرية مقدرتها على استئجار من ينوب عنها حتى في البكاء. وأصبح دور سيدة الحداد نقطة محورية في مراسم الحداد".