تُواصل كفاح إغبارية من مدينة أم الفحم، عدّ ضحايا القتل من أبناء عائلتها. أرجأت "العربي الجديد" إجراء المقابلة معها مرتين خلال أسبوع واحد، بعدما تزامن موعد إجرائها مع إطلاق نار استهدف قريبات لها من العائلة. تخبرنا كفاح عن تفاصيل كثيرة غيّرت مجرى حياة عائلات بأكملها بسبب جرائم القتل التي لا تتوقف ولا يُحاسب عليها أحد. خسرت عائلة كفاح حتى الآن ثمانية أفراد خلال أربع سنوات.
بألم شديد، تحكي كفاح لـ "العربي الجديد" عن أقربائها الذين فقدتهم خلال السنوات الأخيرة. تقول: "بدأت جرائم القتل في عائلتنا عام 2019، حين قتل ابن خالي محمود أبو ياسر في ساحة مسجد أبو عبيدة بعد خروجه من الصلاة. بعدها، قُتل محمد الزياد وهو من الأشخاص ذوي الإعاقة عام 2020 وهو صائم في شهر رمضان أثناء ذهابه لجلب عائلته للإفطار... قُتل خلال انتظاره بناته. بعدها بفترة، قُتل محمد الناصر، وهو ناشط، خلال تنظيم التظاهرات ضد الجريمة والعنف. قُتل أمام منزله بعد مشاركته في تظاهرة في أم الفحم وهو بعمر 21 عاماً". تُضيف كفاح: "بعدها بفترة، قُتل أخي الشيخ خالد أبو السلطان قبل يوم من عيد ميلاده أثناء ذهابه إلى العمل صباحاً. بعدها قُتل ابن عم أمي وأبي خليل أبو ماضي خلال ساعات الفجر. وفي عام 2022، قُتل قريبي الدكتور طارق أمام زوجته في السيارة وابنه الذي وُلد حديثاً، حين كانوا عائدين من المستشفى، وعمد إلى حمايتهم من الرصاص بجسده. وقبل شهرين، قُتل ابن عم أبي محمد العارف، وهو سائق الباص أمام منزلهم. وقبل أسبوع، استهدفت زوجته أم هيثم من المسافة صفر في رأسها".
تحولت جرائم القتل وحوادث العنف خلال العقد الأخير إلى كابوس بالنسبة للفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينيّة عام 1948. أخبار القتل المتتالية خلال أيام الأسبوع حوّلت الكابوس إلى واقع، وأصبح كل شخص يشعر أنّه الضحية المحتملة التالية، وباتت حوادث إطلاق النار وممارسة أشكال أخرى من العنف التي تقف وراء معظمها منظمات الإجرام، جزءاً من تفاصيل حياة الناس اليومية.
وتشير الأرقام إلى زيادة كبيرة في أعداد الضحايا. ففي عام 2014، كان عدد الضحايا 52 قتيلاً. وبعد خمس سنوات أي عام 2019، وصل العدد إلى 85 قتيلاً. وحتّى أغسطس/ آب 2023، وصل عدد الضحايا إلى 143. وزادت أرقام الضحايا خلال السنوات العشر الأخيرة بين الفلسطينيين في الداخل، الذي يُقدّر عددهم بمليون و600 ألف شخص.
جرائم غير عشوائيّة
يقول المحامي والباحث المتخصص في القانون العام والجريمة رضا جابر، إن الجريمة المنظمة كالمرض أو الوباء، إن لم تعالج فستنتشر بشكل تصاعدي وعابر للحدود المناطقيّة والإثنيّة والدينيّة. ويوضح في حديثه لـ "العربي الجديد": "لم يقف أحد في وجه الجريمة المنظمة في الداخل الفلسطيني أو يضع حدوداً لها في آخر 15 سنة، ما أعطى قوة أكبر للجريمة ورفع من وزنها الاجتماعي". يضيف أن "الجريمة ليست حالة عشوائيّة بل لها منطق وتعمل بحسب عقلية معينة قائمة على الانخراط في أماكن ضعف المجتمع وعدم مقاومتها، ما أدى إلى زوال الخوف لدى المجرمين، وأصبحوا يشعرون أن لهم مكانة اجتماعية. وللجريمة منطق إضافي، إذ تتضاعف في حال عدم مقاومتها، وهذا يُفسّر سبب الازدياد النوعي في أعداد الضحايا مع الوقت".
أمّا عن الشريحة الناشطة في الجريمة المنظّمة، فيقول جابر: "هناك بُعد طبقي في الموضوع. لدينا شريحة غالباً ما تكون في قاع المجتمع، بدأت تشعر أنه في إمكانها المنافسة على موارد موجودة لتحسين وضعها ليس فقط من الناحية الماديّة بل الاجتماعيّة من خلال الجريمة. المنخرطون في الجريمة يبحثون أيضاً عن معنى ويجدون أن هناك من يدعمهم. والشخص الذي يُطلق النار يشعر بأنه مهم. عالم الجريمة مغلق ومفتوح. والخروج يكون فقط بالتعرض للقتل".
انتشار في كل البلدات
يقول الصحافي ضياء حاج يحيى، الذي عمل لسنوات في تغطية حوادث العنف والجريمة في الداخل الفلسطيني، إن الكثير من حوادث القتل تحصل لأسباب انتقامية بين منظمات الجريمة ويذهب ضحيتها الأبرياء من العائلات. يضيف لـ"العربي الجديد": "يحصل خلاف بين أفراد من عائلة معينة وأفراد من عائلة أخرى على قضايا مرتبطة بالجريمة المنظمة، فتتطور عمليات الانتقام لتشمل أفراد العائلة الأوسع الذين ليس بالضرورة لهم علاقة بالقضية الخلافية وليسوا مرتبطين بمنظمات إجرامية".
وينعكس ارتفاع أعداد ضحايا العنف على طبيعة الجرائم المرتكبة. ولم يشهد المجتمع الفلسطيني في الداخل قبل عام 2000 ظاهرة مُمأسسة للجريمة المنظمة كما هي الحال اليوم، وكانت نسبة الجرائم حينها منخفضة جداً وعادية. لكن بعد عام 2000، بدأت العصابات الإجرامية تنمو وتتوسع في ظل عدم ملاحقة الشرطة الإسرائيلية للجناة، ووضع حد للعصابات كما فعلت سابقاً مع عصابات الإجرام في المجتمع اليهودي.
وحول معدّل جرائم القتل في المجتمع العربي مقارنة بالمجتمع اليهودي، تشير المعطيات إلى زيادة أكثر بـ 7.5 أضعاف لدى المجتمع العربي، على الرغم من أن نسبتهم من السكان هي 20 في المائة. يضيف يحيى: "عناصر الجريمة العربية خرجوا من قلب منظمات الإجرام في المجتمع اليهودي. كانوا يعملون كمقاولين ثانويين أو من يُنفذ عمليات إطلاق نار. وبعد القضاء على منظمات الإجرام اليهوديّة، توجهوا نحو المجتمع العربي وملأوا الفراغ الذي تركته منظمات الإجرام اليهوديّة، وبدأوا في بناء منظمات عربيّة توسعت بشكل كبير ووصلت تقريباً إلى كافة البلدات العربيّة في الداخل. من كان في العشرينيات من عمره أثناء عمله لدى الجريمة المنظمة اليهودية أصبح الآن في الأربعينيات ويدير عمله في المجتمع العربي". ويشير حاج يحيى إلى تطوّر عمل منظّمات الإجرام العربيّة واستخدام وسائل تكنولوجيّة جديدة مستفيدين من التطور الحاصل في المجتمع. "في السابق، اقتصر عمل منظمات الإجرام على السلاح والسموم، واليوم زادت الإتاوات، واستهدفت المجالس المحلية ومناقصات مشاريع مثل البناء، بالإضافة إلى الاستحواذ على عقارات، وحتى على شركات الفوركس (خدمات تداول العملات عبر الإنترنت)". وتنتشر الجريمة في غالبية البلدات والمناطق العربيّة في الداخل.
سلاح بمئات آلاف
بناءً على البيانات التي جمعت، يبدو أن معظم ضحايا جرائم القتل هم من الجيل الشاب بأعمار تتراوح ما بين 18 و35 عاماً. وتشير دراسة أعدتها جمعيّة الشباب العرب بلدنا عام 2020، والتي بحثت أسباب انجذاب الشباب العرب نحو الجريمة المنظمة، إلى أن هناك العديد من الأسباب والسياسات منها سياسات الحكومات الإسرائيليّة المتمثلة في الإفقار وملاحقة العمل السياسي والتغيرات في الحالة الاقتصاديّة والتوجه نحو الفردانية والشعور بضرورة اقتناء السلاح.
وتترك جرائم القتل أثراً لا يزول عند عائلات الضحايا، وخصوصاً لمن يُصبح يتيماً أو أرملة. وتخبرنا كفاح عن وجود 28 يتيماً في عائلتها بسبب جرائم القتل. وتقول: "يسألني أحد أطفال العائلة: لماذا قتلوا أبي؟ وأصعب ما في السؤال أنني لا أعرف ماذا سأجيب. ما ذنب هؤلاء الأطفال ليعيشوا من دون أب أو أم؟".
وتعمل كفاح على مساعدة الأطفال لتجاوز الأوضاع النفسية الصعبة التي يعيشونها بعد الجريمة وفقدان الأب أو الأم. وأسست جمعيّة "الأمهات الثكالى" وتنشط في مناسبات اجتماعيّة وتنظم تظاهرات وتتحدث إلى وسائل الإعلام. وتقول: "سأستمر بنشاطي ولا أهتم للمجرمين حتى لو هددوني. حياتي ليست أغلى من حياة من قضوا وأنا راضية بقدر رب العالمين".
إلى ذلك، يقول الباحث رضا جابر: "منذ عشر سنوات وأنا أقول إننا ذاهبون للأسوأ. لكن أتوقع أن تتراجع نسبة الجريمة العام المقبل بسبب ما يجري في إسرائيل وليس لأسباب داخل المجتمع العربي. وهناك جهات أمنيّة إسرائيليّة لاحتواء الوضع كي لا ينفجر سياسياً في وجه الدولة والمجتمع اليهودي، وخوفًا على صورة وهيبة الدولة".