فتحت المقبرتان الجماعيتان المكتشفتان حديثاً في كندا جرحاً جديداً بين السكان الأصليّين، على الرغم من سياسات رئيس الوزراء جاستن ترودو التي تدعو بحسب ما هو ظاهر إلى التسامح والاعتذار من هؤلاء وحماية حقوقهم.
في خلال أسابيع، كُشف عن مقبرتَين جماعيّتَين تضمّان رفات أطفال من السكان الأصليّين في موقعَين تابعَين لمدرستَين داخليّتَين كاثوليكيّتَين سابقتَين في مقاطعة كولومبيا البريطانية ومقاطعة ساسكاتشوان الكنديّتَين، الأمر الذي تسبّب في ردود فعل مستنكرة وصلت أخيراً إلى حدّ حرق كنائس وأديرة كاثوليكية. وقد عُثر على رفات 215 طفلاً في المقبرة الأولى، أمّا في الثانية فعلى 751 قبراً تضمّ رفات مجهولين معظمهم من الأطفال. وما سُجّل ما بين مايو/ أيار ويونيو/ حزيران المنصرمَين يفتح مجالاً أكبر للسجال حول أوضاع سكان كندا الأوائل.
وفي النصف الثاني من يونيو، كانت مناطق في كندا، خصوصاً في مقاطعة كولومبيا البريطانية، على موعد مع "حرائق مشبوهة" طاولت كنائس. وقد شهدت المقاطعة يوم السبت في 26 يونيو حرق كنيستَين كاثوليكيّتَين تُضافان إلى أربع كنائس أخرى أُحرقت بالكامل في نطاق مجتمعات السكان الأصليّين. وتشتبه السلطات في أنّ كلّ تلك الحرائق متعمّدة، علماً أنّ أحدها وقع في اليوم الوطني للسكان الأصليّين الذي تحتفل به البلاد في 21 يونيو.
وقد فجّرت الاكتشافات الجديدة موجة غضب وحزن بين السكان الأصليّين، فطالب مجلس الأمم الأولى بتحقيق معمّق في كيفية وفاة هؤلاء الأطفال، بعيداً عن التفسيرات الرسمية التي قدّمتها الكنائس والمدارس طوال عقود من الزمن، إذ أشارت إلى أنّهم توفّوا لأسباب طبيعية. وتُعَدّ القبور المكتشفة جرحاً في المجتمع الكندي، لا سيّما أنّ التقديرات تشير إلى أنّ 4100 طفل من السكان الأصليّين قضوا في مدارس داخليّة تتوزّع في مناطق مختلفة من كندا، وفقاً لخرائط منشورة حديثاً. وتلك المدارس هدفت إلى جعل هؤلاء "متحضّرين" و"استيعابهم" في الثقافة والدين المسيحيَّين، أو في مجتمع الأغلبية منذ عام 1863. وظلّت روايات الأطفال الذين نجوا وأهاليهم غير مصدّقة في كندا طيلة عقود، إلى أن جاء الاكتشاف الرهيب في مايو الماضي، بحسب تقرير لصحيفة "ذي غلوب إند مييل" الكندية.
وبعد الكشف عن المقبرة الجماعية الأولى في أواخر مايو الماضي والتي ضمّت رفات 215 طفلاً من السكان الأصليّين في موقع تابع لمدرسة كامبلوس في مقاطعة كولومبيا البريطانية، ثمّ الكشف عن القبور البالغ عددها 751 في موقع مدرسة ماريفال في مقاطعة ساسكاتشوان في يونيو الماضي، فُتح الجرح وكذلك السجال حول ما تعرّض له أطفال وأسر من السكان الأصليّين. وقد هزّ ذلك المجتمع الكندي، ودفع رئيس الوزراء جاستن ترودو إلى التعبير عن حزنه متحدّثاً عن ألم وصدمة. وذلك الألم يرتبط بمعاناة السكان الأصليّين مع المستوطنين الذين تدفّقوا نحو الأراضي الكندية ومارسوا ما مارسه نظراؤهم في ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأميركية في حقّ السكان الأصليّين، وإجبارهم على تبنّي نمط حياة غير حياتهم، فيما استُهدف الأطفال خصوصاً باسم "التحضّر".
ومنذ تأسيس كندا الموحدة في عام 1867، انتُزِع أكثر من 150 ألف طفل من عائلاتهم ونُقلوا إلى 130 مدرسة دينية تقريباً، ليتمّ استيعابهم في المجتمع الكندي الجديد (الأوروبي)، علماً أنّ الدولة كانت تموّل المدارس وتديرها الكنيسة الكاثوليكية. وانتزاع الأطفال بالقوة من أسرهم كان إلزامياً، إذ إنّها لم تكن ترغب في التخلّي عن أطفالها الذين كانوا يُجبرون على الابتعاد عن لغتهم وثقافتهم الأصليّتَين، مع العلم أنّ الآباء المعارضين كانوا يعرّضون أنفسهم إلى السجن. ومنذ عام 1920، صارت المدارس الداخلية إلزامية للأطفال من السكان الأصليّين.
وعلى الرغم من أنّ كندا عُرفت في منتصف القرن التاسع عشر كملاذ للفارين من العبودية في الولايات المتحدة الأميركية، فإنّ ممارسات شنيعة كانت تنتشر في حقّ السكان الأصليّين، وقد استهدفت هوية ذلك الشعب من خلال "إعادة تربية" الصغار لخلق ما يشبه انصهاراً كلياً في ثقافة مجتمع كندا الأبيض، وهو ما ظلّ يردده سياسيون ورجال دين حتى منتصف القرن الماضي. ونجم عن تلك الممارسات أهوال من قبيل مصادرة أراضي السكان الأصليّين وإجبارهم على الانتقال نحو مجمّعات سكنية (محميّات) على الطريقة الأميركية، وقد ساهمت الأديرة والكنائس الكاثوليكية بجزء كبير في تنفيذها، بما فيها نقل الصغار لإجبارهم على التخلّي عن ثقافة أجدادهم ولغتهم وتقاليدهم. وثمّة أطفال انتُزعوا من أهلهم وهم لم يبلغوا الثالثة من العمر، من بينهم من يصنّفون كنتاج زيجات مختلطة بين المستوطنين والسكان الأصليّين. واستمرّت هذه السياسة حتى عام 1998.
وبعد سجال كبير فجّره نضال مكافحين في سبيل الحفاظ على ما تبقّى من ثقافة السكان الأصليّين والمطالبة بمراجعة الفظائع التي ارتُكبت، أصدرت لجنة الحقيقة والمصالحة التابعة لوزارة العدل الكندية تقريراً رسمياً مؤلّفاً من أربعة آلاف صفحة في عام 2015، وصف ما كان يجري في المدارس الداخلية برعاية الكنيسة بأنّه "إبادة جماعية ثقافية" للسكان الأصليّين. وقد اعتمدت اللجنة على شهادات سبعة آلاف ناج من تلك الإبادة الجماعية وممّا كان يدور في تلك المدارس الداخلية، لشرح ما تعرّض له هؤلاء، وفق ما شرحته اللجنة على موقعها الرسمي عن آلية عملها بين عامَي 2008 و2015. ووصف التقرير، قبل الكشف عن المقبرتَين الجماعيّتَين، كيف تعرّض الأطفال في المدارس الداخلية للإهمال والاستغلال وكيف عاشوا أسوأ الظروف. وبيّن أنّ عديدين من هؤلاء تعرّضوا إلى تحرّشات واعتداءات جنسية من قبل المعلّمين والموظفين في تلك المدارس، فيما وصل الإهمال الذي تعرّضوا إليه واللامبالاة بهم إلى تسجيل معدلات وفيات في تلك المدارس الداخلية فاقت تلك المسجّلة بين السكان عموماً.
يُذكر أنّه في عام 2017، بعد عامين من صدور التقرير، وجّه ترودو اعتذاراً مشتركاً عن تلك الفظائع، مع المسؤولين الحكوميين عن المدارس الداخلية في البلاد، نُشر بلغة السكان الأصليّين. كذلك طالب ترودو البابا فرانسيس، بصفته رئيس الكنيسة الكاثوليكية، بتقديم اعتذار للسكان الأصليّين عمّا كان يجري في مدارس الكنيسة الكاثوليكية وأديرتها، غير أنّ ذلك لم يحصل حتى اليوم.
في تقريرها الشامل، تناولت لجنة المصالحة "سياسة الاستيعاب" وهي الممارسة القاسية التي انتهجتها المدارس الداخلية الكاثوليكية وخلّفت نتائج كارثية في القبائل الأصليّة. وكشفت عن تفاصيل صادمة جداً للمجتمع الكندي عن تاريخ مؤسّسيه منذ عام 1867، إذ تحوّلت المدارس التبشيرية إلى تطبيق سياسة دمج الأطفال. وقد هدفت تلك السياسة إلى فرض التعاليم المسيحية على هؤلاء وتحويلهم إلى ثقافة البيض ومنحهم أقلّ الامتيازات الممكنة، فيما كانوا يُعَدّون عبئاً. وبهدف تطبيق ذلك، حظرت الاحتفالات الدينية والتقليدية والثقافية الخاصة بالسكان الأصليين واستبدلت لغتهم باللغتَين الإنكليزية والفرنسية.
ووفقاً لما أبرزته تحقيقات اللجنة، فقد عبّر معنيّون بشؤون السكان الأصليين بدقّة عن الغرض من تلك السياسة في عام 1920، إذ قالوا إنّ "هدفنا هو الاستمرار حتى لا يعود هناك أميركي أصلي واحد في كندا من دون استيعاب ونتخلّص من كلّ مشكلة تتعلّق بسكان أصليّين ". وبحسب مسؤولين عن المدارس الداخلية فقد كان عليهم "جعل الفرد من السكان الأصليين رجلاً أبيض".
وسياسة الاستيعاب التي ساهمت الكنيسة في تطبيقها، كانت متبنّاة من قبل الحكومة الفدرالية في أوتاوا حتى عام 1970 قبل أن يُعلَّق العمل بها على وقع احتجاجات للسكان الأصليّين. وقد أُجبر رئيس الوزير الأسبق بيار إليوت ترودو، والد جاستن ترودو، على التخلي عن تلك السياسة التي أدّت إلى "الإبادة الثقافية" بحسب وصف اللجنة. فالأطفال الذين انتُزعوا من أسرهم على مدى سبعة أجيال، حُرموا من رؤية آبائهم، وحين عادوا لمقابلتهم لم يتمكّنوا من التواصل معهم. لم يتمكّنوا من فهم بعضهم بعضاً، فالأبناء لم يفهموا لغة الآباء ولا ثقافتهم. وأكّد التقرير أنّ "أطفال السكان الأصليين حُرموا من هويّتهم من خلال جهود منهجية ومتضافرة للقضاء على ثقافتهم ولغتهم وروحهم. وقد كانت بالتالي إبادة ثقافية".
وكانت عواقب اجتماعية ونفسية هائلة بين السكان الأصليّين وكذلك في المجتمع الكندي المستوطن. فالمحميات التي تضمّ السكان الأصليّين التي أُجبرت على التخلي عن أراضيها وموطنها القبلي، صارت تضمّ أفراداً لا هوية واضحة لهم وسط تدنّ لاحترام الذات والثقافة والتعليم، إلى جانب الفجوة الكبيرة بين الأجيال. وهو ما ولّد نقمة شديدة بين مراهقي تلك المحميات. وفي عام 2016، في التاسع من إبريل/ نيسان، في سياق عواقب تلك المنهجية التي خلقتها سياسة الاستيعاب الثقافي والتحضّر، حاول 11 طفلاً تتراوح أعمارهم ما بين 10 أعوام و14، الانتحار ليلاً، وذلك في محميّة صغيرة في أتاوابيسكات بمقاطعة أونتاريو. وفي الشهر الذي سبقه، كان 28 طفلاً قد أقدموا على الأمر نفسه، ما رفع محاولات الانتحار إلى 150 في خلال أشهر قليلة منذ سبتمبر/ أيلول 2015. وقد وصف ترودو تلك الحوادث بأنّها "مفجعة"، واعداً بمواصلة تعاونه مع السكان الأصليّين في كلّ أنحاء كندا لتحسين ظروفهم المعيشية. وأرسلت الحكومة الفيدرالية وكذلك حكومة المقاطعة عاملين في القطاع الصحي ومجموعة من المتخصصين النفسيين، إذ صُنّف المجتمع الذي شهد محاولات الانتحار "منكوباً". يُذكر أنّ أخبار محاولات الانتحار تصدّرت أخبار الصفحات الأولى في الصحف الكندية والعالمية. وقد حاول إعلاميون الوصول إلى المحمية حيث يعيش نحو ألفَي شخص، غير أنّ صعوبات واجهتهم بسبب وقوعها في منطقة تغطّيها الثلوج جنوب خليج هدسون، بالتالي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال طائرات صغيرة.
وعلى الرغم من تقدّم كندا واستقبالها مهاجرين من كلّ أنحاء العالم، فإنّ حادثة أتاوابيسكات فتحت سجالاً حول واقع السكان الأصليين. فالمآسي التي عاشها سكان ذلك المكان المعزول وسط ظروف بائسة، دفعت الشباب إلى الغرق في مشكلات اجتماعية وفي إدمان الكحول وتعاطي المخدرات، بحسب إقرار الصحافة الكندية. فهناك غابت كلّ مظاهر التطوّر الذي يعيشه أقرانهم في المدن الكبرى مثل تورنتو ومونتريال، وهو ما أدّى إلى انتشار الجريمة وفقدان الأمل وبلوغ اليأس بين صغار اختلّت هويّتهم.
قبل زمن، أدركت كندا الرسمية فظاعات "سياسة الاستيعاب" والمدارس الداخلية التي تسبّبت في مآس كثيرة في محميّات السكان الأصليّين، مثل مجتمع أوتاوابيكسات. وفي عام 2008، قدّم رئيس الوزراء آنذاك ستيفن هاربر اعتذاراً رسمياً عمّا جرى في المدارس الداخلية. وشكّلت كندا منذ ذلك الاعتذار لجنة تقصّي حقائق ودفعت تعويضات، لكنّ النقمة استمرّت ضدّ الكنيسة التي لم تعتذر ولم تعوّض لا الأطفال الذين بقوا أحياء وصاروا شباباً ولا أهاليهم.
ويرى كثيرون في المجتمع الكندي أنّ الطريقة التي عومل فيها السكان الأصليّون هي مأساة كندا الكبرى، وأنّه لا يمكن التخلص من ذلك التاريخ من دون استعادة هؤلاء السكان للاحترام الذاتي ومن دون التغلّب على التحيز الكندي ضدّهم. وفي المجمل، تعيش كندا سجالاً مستمراً منذ سنوات طويلة، حول ما يمكن فعله حيال الذاكرة البشعة في تعامل تاريخي سيّئ مع قبائل السكان الأصليّين في البلاد، منذ وطأتها أقدام مستوطني أوروبا. وبينما يصرّ بعض من الاستعلائيين على عدم الاعتذار والاعتراف بالمأساة، فإنّ آخرين يرون وجوب تغيير تاريخ البلاد وثقافتها لتشمل السكان الأصليّين كأصحاب أرض أصيلين. وثمّة مجموعات سياسية وثقافية تعمل على استعادة هؤلاء بعضاً من أراضيهم التي سُرقت منهم، وممارسة طقوسهم وثقافتهم، بل ومشاركتهم فيها كجزء أصيل من تاريخ البلاد. وتحذّر تلك المجموعات من أنّ سياسات نقل السكان رغماً عنهم من مناطق سكنهم سوف تتسبّب في مآس جديدة، وسوف تكون تكراراً لأخطاء الماضي.