استمع إلى الملخص
- تعرض ياسر لأساليب تعذيب قاسية، حيث اعتقل بتهم ملفقة مثل تصنيع عبوات ناسفة، مما أثر على صحته بشكل كبير، وأجبر على الاعتراف بجرائم لم يرتكبها.
- يواجه السجناء المحررون تحديات في الاندماج بالمجتمع بسبب الفجوة الرقمية، وتؤكد الأخصائية شيماء حرب على أهمية برامج تأهيل شاملة ودعم نفسي واجتماعي.
يصعب على السجناء المحررين من سجن صيدنايا تذكر كل العذابات التي عاشوها داخل أقبية التعذيب، كما يصعب عليهم التأقلم مع حياة تغيرت عليهم، خصوصاً الذين مضى على اعتقالهم سنوات طوال.
كان السوري ياسر العبود في الأربعين من عمره عندما اقتُلع من حياته وألقي في زنازين سجن صيدنايا المظلمة، والتي قضى فيه أكثر من ثماني سنوات، لكن أصعب لحظة كانت عندما أجبروه تحت وطأة التعذيب النفسي والجسدي على الاعتراف بجرائم لم يرتكبها ولا يعلم عنها شيئاً. يقول العبود لـ"العربي الجديد": "شتموني، وكبلوا يدي، وصعقوا جسدي بالكهرباء. هددوا بقتل عائلتي إن لم أعترف بما فبركوا لي من جرائم. أخيراً استسلمت خوفاً".
كان ياسر عاملاً في مؤسسة الكهرباء في منطقته بمحافظة السويداء. يقول: "بدأت قصتي عندما بدأ أحد شبان مدينتي، وهو جاري وقريبي، تشكيل فصيل مسلح للخطف والقتل وتجارة المخدرات تحت غطاء صندوق اجتماعي. بادرت لكشف حقيقة هذا الصندوق والنيات المبيتة من وراء إنشائه للناس في محيطي، الأمر الذي ساهم في حل تلك المجموعة بعد ضغط شعبي، ما أثار نقمة ذلك الشخص، وفتح علي باباً لم أكن أظن أنه قد يفتح".
ويوضح: "كنت أعمل كفني صيانة في أحد فروع شركة الكهرباء، وأعمل بعد الدوام بصيانة الإلكترونيات. لكن مع تصاعد الأحداث في سورية، بدأت أميل نحو معارضة النظام نتيجة الممارسات التي ينتهجها ضد الشعب. مع بداية تشكيل قوات رجال الكرامة بقيادة الشيخ الشهيد وحيد البلعوس في عام 2013، أعلنت تأييدي لنصرة المظلومين، ودعمت حماية رجال الكرامة لأبناء المحافظة الفارين والمنشقين من جيش النظام، والمتخلفين عن الالتحاق به. أعجبتني كل مبادرات وأد الفتنة التي كان النظام يحاول افتعالها بين مكونات محافظة السويداء، ومن بينهم الجيران في محافظة درعا، وشاركت في العديد من المعارك لصد الهجمات التي قادتها فصائل أعلنت انتماءها لتنظيم الدولة على قرى السويداء، وعدد من قتلاهم كانوا من أتباع النظام".
تعددت أساليب التعذيب في صيدنايا
يتابع: "جرى اعتقالي في عام 2019 في مكيدة مدبرة، إذ ذهبت إلى مقر الأمن الجنائي في مدينة السويداء بعد استدعاء بحجة إجراءات روتينية كما قال له الضابط الذي اتصل بي طالباً مني القدوم إلى مكتبه لطرح بعض الأسئلة المتعلقة بالعمل. لم أشك للحظة أنه كمين، خاصة أنني كنت قبل أيام قد استخرجت من ذات الفرع وثيقة غير محكوم لتسيير معاملة تتعلق بضم طفلي لسجلي الوظيفي. بعد وصولي إلى مكتب الضابط، بادرني بالقول: في حقك ثلاث قضايا، اختر واحدة منها كي نحقق معك بشأنها".
يضيف العبود: "وقفت لثوان غير مصدق، خصوصاً أن لا علاقة لي بهذه الجرائم، وإحداها كانت الانتماء إلى مجموعة إرهابية والقتال ضد عناصر الجيش السوري. وقفت مصعوقاً من هول الاتهامات، ولم أكن أدري أن الدفاع عن أرضي وأهلي ضد مسلحين هاجموا قرى محافظتي، وقتلوا المدنيين واختطفوا النساء، يعتبر عملاً إرهابياً. لم أحمل سلاحاً إلا في تلك الفترة، ولم أتعرض يوماً لأي عسكري في جيش النظام. كنت دائماً أعتبرهم أبناء الوطن رغم دفاعهم عن الطاغية".
بعد ثلاثة أيام، حوّل ياسر وعدد من المعتقلين إلى إدارة الأمن الجنائي في دمشق، ولدى مقابلة الضابط المسؤول عن استلامهم، تلقى الضابط اتصالاً يعتقد ياسر أنه من قائد المجموعة المسلحة التي كان قد ساهم بحلها سابقاً، والذي فهم أنه من قام بتلفيق الاتهامات له. كان أمام الضابط سجلاً كتب عليه اسم ياسر وإلى جانبه ثلاث تهم، هي تصنيع عبوات ناسفة، والهجوم على حواجز للجيش بأسلحة ثقيلة، وقصف منزل في مدينة صلخد بصواريخ محمولة على الكتف، وكتب بجانبها باللون الأحمر "الاقتراح ميداني".
يقول: "من إدارة الأمن الجنائي، تمت تعبئتي مع عدد من المعتقلين من محافظات عدة في سيارة عسكرية. كنا مكبلي الأيدي، وكان العسكريون يلقون بنا في صندوق السيارة ويدوسون فوق أجسادنا جيئة وذهاباً إمعاناً في إذلالنا، ثم نقلونا إلى فرع أمني لم أعرفه. في هذا الفرع، استلم التحقيق معنا ضابط برتبة مقدم، وكان يوجه لنا ألفاظاً نابية، ويأمر جنوده بضرب من لا يتجاوب مع الاعترافات الجاهزة".
يضيف: "علقوني في الهواء لساعات، وطلبوا مني أن أعترف، وطوقوا قدمي بإطار سيارة بعد طيهما إلى الخلف، ووضعوا بين الإطار ومفصلي ركبتي من الخلف عصا كي يثبت الإطار، وبدأوا يضربوني بعصا حديدية على أنحاء جسمي. كنت أشتمهم بداية ومع كل شتيمة كان يزيد الضرب، فيقومون بتعليق عبوات بلاستيكية مليئة بالمياه في قدمي حتى يزداد الثقل على يدي المعلقتين، ومع استمرار الضرب كسرت إحدى قدمي. بعدها، ومع رفضي الاعتراف بما لم أرتكبه، وصلوا سلك كهرباء إلى منطقة حساسة من جسدي، وبدأوا بالصعق".
ويؤكد: "لم يدعوا أسلوب تعذيب لم يمارسوه علي، السرير العسكري، بساط الريح، وكانوا يرقصون فوق قفصي الصدري. كانت جلسات التعذيب يومية، وفي كل يوم يجبرونني على الاعتراف بما لم أفعل. أساليب كثيرة للتعذيب مورست بحقي لكن لا يمكنني ذكرها، كونها تسبب الألم لي، وقد تسيء إلى أولادي إن سمعوا بها، وسجناء آخرين لم يحتملوا التعذيب، وماتوا تحت وطأته".
من بين من لقوا حتفهم تحت التعذيب المعتقل سعيد غالي، والذي كانت أمه تنتظر أي خبر عنه منذ بدء تحرير المعتقلين عقب سقوط النظام، وظل الأمل يحدوها حتى عرفت من بعض من استطاعت التواصل معهم ممن كانوا في ذات المعتقل، أن ابنها مات من شدة الضرب في الأيام الأولى لاعتقاله.
تقول أم سعيد لـ"العربي الجديد": "كان قادة إحدى العصابات المسلحة التابعة للأمن العسكري في مدينتنا على خلاف مع ولدي الذي كان يعمل في مغسل للسيارات، وقد رفض مراراً تأدية أي خدمات له، وكان يكرر عليهم أنه لا يقوم بخدمة من يتاجرون بأبناء بلدهم ويدخلون المخدرات لقتلهم".
قام قائدة العصابة بالإبلاغ عن سعيد متهماً إياه بقتل عدد من أبناء المدينة الذين قتلهم زعيم العصابة نفسه، وشنت قوات تابعة للأمن العسكري حملة على المدينة، اعتقلت فيها عدداً من الشبان وحولتهم إلى فرع أمني في دمشق، وهو الفرع 215 المعروف باسم فرع فلسطين، وكانت التهم الموجهة إليهم هي الانتماء لتنظيم إرهابي مسلح.
بالعودة إلى ياسر العبود، فقد خرج من سجن صيدنايا يعاني الكثير من المشاكل الصحية، يقول: "كنت أعمل في صيانة الإلكترونيات، وكنت أبصر الأرقام مهما كانت صغيرة. اليوم بالكاد أرى القطع نفسها، كما أن تطور تكنولوجيا الاتصالات لم يكن بهذا الشكل حين دخلت المعتقل. لا أعرف طبيعة العمل الآن، وليست لدي خبرة بوسائل التواصل الاجتماعي، والموبايلات الحديثة، رغم أن فترة اعتقالي أقصر من فترة اعتقال غيري ممن كانوا معي في الزنزانة، والذين تجاوز بعضهم العشر سنوات".
وحول كيفية دمج المعتقلين في المجتمع وتكييفهم مع الظروف الحياتية والتكنولوجية، تقول الأخصائية الاجتماعية شيماء حرب لـ "العربي الجديد": "لا يكفي إطلاق سراح المعتقلين كي يعودوا إلى حياتهم الطبيعية، فهناك تحديات كبيرة ستواجههم، أبرزها التكيف مع مجتمع مختلف، خصوصاً على صعيد التكنولوجيا. شهد العالم بينما كانوا خلف القضبان تطورات هائلة في مجال الاتصالات، ما يجعل عملية الدمج غاية في الصعوبة".
وتوضح حرب أن "أحد أكبر التحديات التي تواجه المعتقلين المحررين هي الفجوة الرقمية التي تفصلهم عن المجتمع، فسنوات الاعتقال حرمتهم من فرصة التعرف إلى أحدث التقنيات وأساليب التواصل، ما يجعلهم يشعرون بالغربة والعزلة. ولتجاوز ذلك، يجب وضع برامج تأهيل شاملة تركز على الجانبين التقني والاجتماعي، وإخضاعهم لدورات تدريب مكثفة لتزويدهم بالمهارات الأساسية في استخدام أبسط التقنيات، إضافة إلى دمجهم في ورش عمل حول التواصل الاجتماعي لمساعدتهم على بناء علاقات اجتماعية جديدة".
وتشير إلى أن "تقديم الدعم النفسي للمعتقلين المحررين ضرورة لمساعدتهم على التغلب على الصدمات النفسية التي تعرضوا لها، وتدريبهم على مهارات الحياة المستقلة، مثل إدارة الميزانيات، وحل المشكلات. لا يقع عبء إعادة تأهيل المعتقلين على عاتق المؤسسات الحكومية فقط، بل يجب أن يتحمل المجتمع كله المسؤولية، وأن يساهم في هذا الجهد من خلال تقديم فرص عمل لهم بعد إخضاعهم لبرامج تدريب مهنية مناسبة، إضافة إلى دورات توعية لأسرهم حول كيفية التعامل معهم. إضافة إلى الخبراء النفسيين، يحتاج المحررون إلى دعم اجتماعي، سواء من أفراد متطوعين أو مؤسسات متخصصة".