ما زال سكان ريف حمص الشمالي يعيشون المخاوف ذاتها منذ أربع سنوات، عندما استعاد النظام السوري المنطقة من فصائل المعارضة، وهم غير قادرين على المطالبة بتحسين الظروف المعيشية على الرغم من الوعود التي تلقّوها خلال اتفاق التسوية. والضمانات التي ادّعت روسيا أنّها مسؤولة عنها في سبيل الإبقاء على سكان المنطقة كانت عبارة عن خدعة، كذلك الأمر بالنسبة إلى وعود النظام بتحسين الواقع الخدماتي في المنطقة.
ويتشارك اليوم سكان مناطق تلبيسة والحولة والغنطو والدار الكبيرة الواقع الخدماتي السيّئ ذاته، وكذلك التسلّط الأمني من قبل قوات النظام السوري ومليشياته التي تُخضع المنطقة لرقابة صارمة. وهو ما يؤكده الناشط أحمد الحمصي، قائلاً لـ"العربي الجديد" إنّه "بالنسبة إلى ريف حمص الشمالي، مناطق تلبيسة والغنطو وتير معلة والدار الكبيرة، فإنّ التضييق كبير حتى الوقت الحالي. وتتوجّب على كثيرين مراجعة النقاط الأمنية بشكل شهري. بالنسبة إلى أهل مدينة تلبيسة، عليهم مراجعة المفرزة، وفي الدار الكبيرة فرع مفرزة الأمن العسكري، وهذا ينطبق على معظم بلدات ومدن الريف الشمالي. والمطلوبون مجبرون على دفع الإتاوات، خوفاً من الاعتقال، على الرغم من أنهم عمدوا إلى تسويات في السابق مع النظام".
ويحكي الحمصي عن محمود بكور وهو مراسل "تلفزيون سوريا" سابقاً، أحد الذين عاشوا هذا التضييق الأمني، وكان مجبراً على دفع مبلغ مالي شهرياً يصل إلى نصف مليون ليرة سورية. لكنّه في النهاية قُتل في منزله، وقد تعدّدت الروايات حول مقتله". وكان البكور من الأشخاص الذين خضعوا للتسوية، لكنّه مثلما يؤكد الحمصي "كان يتعرّض لمضايقات من الملازم في النقطة الأمنية الذي كان يستدعيه بشكل دوري ويجبره على دفع إتاوة على الرغم من أنّه أجرى تسوية. كذلك عمّم اسمه على الحواجز المنتشرة في الريف، حتى لا يتمكّن من مغادرة المنطقة. وهذه حالة تكررت مع كثيرين". يضيف الحمصي أنّ "ثمّة شبّاناً كثيرين لا يستطيعون الذهاب إلى مدينة حمص، إذ إنّ ذلك يعني اعتقالهم عند أوّل حاجز أمني، بالتالي هم محاصرون فعلياً في المنطقة وهم يدفعون إتاوات فقط كي لا يُعتقلوا". ويلفت إلى أنّهم "يحاولون الخروج إمّا إلى لبنان أو التوجّه إلى الشمال السوري ثمّ إلى دول أوروبا. ففي المنطقة، ثمّة خياران متاحان راهناً، إمّا الالتحاق بقوات النظام أو بالمليشيات، ومنها مليشيا القاطرجي التي استقطبت شباناً كثيرين، لتوفيرها الدهم لهم وتمكينهم من خلال بطاقاتها من التحرّك بحرية".
وتتّجه الأمور من سيّئ إلى أسوأ، سواء أكان ذلك خدمياً أم أمنياً. ويوضح الحمصي أنّ "من كانوا مسؤولين في المجالس المحلية في السابق قبل التسوية، ما زالوا في المنطقة. وكثيرون منهم متّهمون سابقاً بالسرقة"، مشيراً إلى أنّ "سلال المساعدات تخضع كذلك للمحسوبيات والفساد". واتفاق التسوية لم يكن في يوم ورقة ضمان لعدم الاعتقال في ريف حمص الشمالي، بل بخلاف ذلك سهّل عمليات الاعتقال على قوات النظام، إذ إنّ المطلوبين تحت الأنظار دائماً ويُستدعون إلى الأفرع الأمنية في الزمان الذي تحدّده ويبقى مصيرهم مجهولاً في سجونها. ومن الذين خضعوا للتسوية واعتقلوا عاطف السيّد وهو من أبناء مدينة تلدو بمنطقة الحولة. وقد أشيع أخيراً أنّه قضى تحت التعذيب في سجن صيدنايا، الأمر الذي نفته مصادر مقرّبة من عائلته لـ"العربي الجديد"، إذ لم تصلها أيّ شهادة وفاة باسمه وقد تمكنت زوجته من زيارته في السجن. يُذكر أنّ السيّد من عائلة قضى عدد من أفرادها في مجزرة الحولة التي ارتُكبت في 25 مايو 2012، عند المدخل الجنوبي لمدينة تلدو.
خدمات في تراجع
لا يختلف الواقع الخدمي في مناطق ريف حمص الشمالي عن باقي المناطق التي خضعت لاتفاق التسوية، والمشكلات الأساسية تتعلق بانقطاع الكهرباء وساعات التغذية، وأزمتَي مياه الشرب وغاز الطهي المنزلي، وسوء الواقع الطبي الذي يدفع السكان إلى العيادات والمستشفيات الخاصة على الرغم من ظروفهم المعيشية الصعبة.
ياسين رجل خمسيني يقيم في مدينة تلدو بمنطقة الحولة، ويعاني كغيره من مشاكل مختلفة. ويقول ياسين وقد تحفّظ عن ذكر اسمه كاملاً لـ"العربي الجديد" إنّه "في حالة المرض، ليس أمامنا سوى التوجّه إلى مستشفى خاص ودفع كلّ ما نملك للعلاج. فمستشفى تلدو بقي لسنوات ثكنة عسكرية، وما زال الخراب فيه شاهداً على ذلك".
من جهته، يخبر غسان أبو نجم "العربي الجديد" أنّه "في مدينة تلبيسة، ثمّة مستشفى خاص وحيد يعمل راهناً"، لافتاً إلى أنّ "معدّاته تعود إلى مستشفى آخر كان مموّلاً من قبل الرابطة الطبية للمغتربين السوريين. فمع قرار التسوية، اتُّخذ قرار بإتلاف تلك المعدّات لكنّه لم يُنفَّذ. وبعد دخول النظام المنطقة، استولى عليها". إلى جانب ذلك، يشير أبو نجم إلى أنّ "عيادات جمعية البر توفّر خدمات طبية محدودة وضعيفة لا تلبّي حاجات الناس في المدينة.
أمّا الخدمات في المدينة من كهرباء ومياه فتأتي مماثلة لبقيّة مدن الريف الشمالي. ويقول أبو نجم إنّه "على الرغم من آلية توزيع الغاز المنزلي بواسطة البطاقة الذكية، فإنّ الأهالي يعانون من أزمة غاز حالياً. فهو متوفّر في السوق السوداء بسعر يتراوح ما بين 100 ألف و150 ألف ليرة سورية، الأمر الذي يمثّل أزمة إضافية للسكان".
ذكريات أليمة
وبعد اتفاق التسوية في منطقة الحولة، بدأت الملاحقات الأمنية تستهدف الشبان وكلّ من كانت له نشاطات مناصرة للثورة، فاعتقلت القوى الأمنية التابعة للنظام كثيرين من السكان، وذلك قبل انقضاء مهلة الأشهر الستة التي تعهّدت روسيا في خلالها بعدم ملاحقة المطلوبين الذين بقوا في المنطقة. وهذا أمر سُجّل في كلّ مناطق ريف حمص الشمالي، في حين اقتيد الذين بلغوا سنّ الخدمة العسكرية وأُلحقوا بجيش النظام".
في سياق متصل، يقول عمر الخالد لـ"العربي الجديد" إنّ "شيئاً لم يتغيّر في ريف حمص الشمالي بعد اتفاق التسوية"، لافتاً إلى أنّ "النظام يواصل تضييق الخناق على السكان لجهة الخدمات وكذلك الأمن". ويتذكّر الخالد "ساعات التهجير الأخيرة قبل أربع سنوات، فقد أمضيت 24 ساعة على الطريق عادلت حياتي كلها". ويروي: "خرجت عند الساعة السادسة صباحاً برفقة زوجتي وأطفالي من الدار الكبيرة في اتجاه تلبيسة، إذ إنّ الباصات كانت متوقفة على أوتوستراد حمص-حماة. وانتظرنا عند محطة وقود الجاموس حتى الساعة الثامنة صباحاً، وسط تجمّع ضخم من الناس. كان الازدحام شديداً لدرجة أنّه يمكن للمرء أن يضيّع أولاده وأغراضه". يضيف الخالد أنّه "في خلال الانتظار، وصلت 10 باصات، لكنّها لم تكن كافية لربع المتجمّعين في المكان. تمكنّا من ركوب أحدها بعد عناء، علماً أنّه كان ممتلئاً. وعند الوصول إلى جسر الرستن في العاشرة صباحاً، صعد ضابط روسي إلى الباص برفقة ضابط من النظام، وفتّشا الركاب وسجّلوا أسماء من يحمل سلاحاً". ويتابع الخالد أنّه "بعد جسر الرستن، زوّدونا بشيء لا يُذكر من المعلبات. وابتعدنا عن نقطة التفتيش في اتّجاه حماة. ووقعت مشاكل كثيرة، وحاول الضباط على الحواجز عرقلتنا. وبقينا عالقين على هذه الحال منذ الصباح حتى الساعة 11 من قبل منتصف الليل. ولم يعد لدى الركاب أيّ طعام، وعند وصولنا إلى مدينة حماة تعطّل الباص، وصرنا نتناوب على المقاعد وعلى حمل الأطفال الصغار". يُذكر أنّ الخالد ما زال يأمل العودة إلى بيته في ريف حمص وإنهاء رحلة التهجير هذه، لكنّه يرى أنّ "لا عودة ممكنة والنظام السوري ما زال يحكم المنطقة".
ويُجمع سكان ريف حمص الشمالي على أنّ الخدمات سيّئة جداً، إذ بالكاد تتوفّر الكهرباء لمدّة نصف ساعة أو ساعة على أفضل تقدير بعد قطعها ستّ ساعات، فيما يواجه السكان صعوبة في الحصول على مياه الشرب بسبب انقطاع التيار الكهربائي اللازم لتشغيل مضخّات المياه لملء الخزانات. كذلك، فإنّ الطرقات لم تخضع لأيّ أعمال صيانة.
وتبدو منطقة الحولة شبه خالية من الشباب، وسكانها يتعرّضون للتضييق والابتزاز، فيما صادر النظام أملاكاً في منطقة الرستن. وقد لوحظ تهجير قسم من أبناء مناطق الرستن وتلبيسة والحولة إلى إدلب. ويمثّل أبناء منطقة الحولة التي قدّر عدد سكانها قبل عام 2011 بنحو 123 ألف نسمة، القسم الأكبر من المغادرين.