تواجه روسيا أزمة ديمغرافية تسبب فيها تدني معدلات الإنجاب، ما يؤدي إلى دعوات من شخصيات دينية ومسؤولين كبار إلى فرض قيود على عمليات الإجهاض، وصولاً إلى حظرها تماماً. لكن ثمة شكوك كثيرة في جدوى هذه الخطوة نظراً للمعتقدات الراسخة مجتمعياً بخصوص عدد الأطفال، فضلاً عن تحذيرات من إجراء عمليات إجهاض غير آمنة.
ولم يبق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بمنأى عن القضية، إذ أكد خلال مؤتمره الصحافي السنوي للإجابة عن أسئلة المواطنين في منتصف ديسمبر/كانون الأول، على ضرورة مراعاة حقوق النساء وحرياتهن عند حل مشكلة الإجهاض.
ويرى رئيس مجلس الإشراف في معهد الديمغرافيا والهجرة والتنمية الإقليمية، يوري كروبنوف، أن الدعوات إلى حظر الإجهاض لا علاقة لها بقضية زيادة المواليد، بل تندرج ضمن تعزيز القيم الأساسية في روسيا، موضحاً لـ"العربي الجديد": "لا ينبغي النظر إلى إجراءات تقييد الإجهاض أو حظره، والتي يمكن الجزم بأنها لن يتم تمريرها، باعتبار أنها إجراء فعال لزيادة أعداد المواليد. هذه مقاربة خاطئة، فالحظر لن تليه أية زيادة تذكر في المواليد، والأمر يعتمد على ترسيخ نموذج أسرة كبيرة تنجب ثلاثة أو أربعة أطفال بدلاً من طفل أو طفلين كما هو الوضع حالياً".
وتشير تقديرات هيئة الإحصاء الروسية "روس ستات" إلى أن عدد حالات الإجهاض يتراجع بوتيرة نسبتها 6 في المائة سنوياً منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. وفي عام 2020، سجلت الهيئة 553 ألف حالة إجهاض بمعدل 38.8 حالة من بين كل 100 حالة ولادة، وفي عام 2022، تراجع عدد حالات الإجهاض إلى 506 آلاف.
ولا يرى كروبنوف أن تراجع عدد حالات الإجهاض يدل على تحسن أوضاع القيم الأساسية، ويقول: "يقلل التقدم التكنولوجي في مجال صناعة موانع الحمل من الحاجة إلى الإجهاض، بينما تتطلب زيادة المواليد عملاً دؤوباً على مدى 15 إلى 20 عاماً قبل أن يأتي ثماره".
من جهته، يشير كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، إلى أن حظر الإجهاض قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، مثل إجرائه بصورة غير قانونية. ويقول لـ"العربي الجديد": "لن يؤدي حظر الإجهاض إلى الكف عن إجرائه، والمطلوب هو تحفيز الرغبة في الإنجاب، وتعزيز المبادئ الأخلاقية في المجتمع، والتصدي للأفكار الهدامة القادمة من الغرب في هذا السياق".
ويستشهد أندرييف بنتائج استطلاعات الرأي التي تظهر أن أكثر من 40 في المائة من الروس يعتبرون أن الإنجاب واجب مجتمعي، وهذه النسبة تبلغ أضعاف النسب المماثلة في مجتمعات أوروبية، مقراً في الوقت نفسه بأنها لا تزال نسبة متدنية مقارنة مع بلدان العالم الإسلامي. معتبراً أن "تراجع معدلات الإنجاب ظاهرة طبيعية في ظل زيادة نسبة سكان المناطق الحضرية التي لا توفر بيئة مواتية لتربية الأطفال على غرار تلك المتوفرة في القرى والأرياف".
بدوره، يصف عضو أكاديمية العلوم الروسية طبيب النساء الشهير، فيكتور رادزينسكي، الإجهاض بأنه "مشكلة لا يمكن أن ينهيها الحظر"، ويقول لصحيفة "كوميرسانت" الروسية: "المرأة لا يمكنها أن تستكمل حملاً لا تراه ضرورياً. يمكننا ثنيهن عن الإجهاض أحياناً، و16 في المائة منهن يغيرن آراءهن، وهذه نسبة جيدة، ومن يقول إن النسبة 40 في المائة يخادع نفسه. يمكن للمرأة أن تظهر قبول رأي الطبيب، ثم تذهب إلى عيادة مجاورة لإجراء الإجهاض".
وقالت رئيسة مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي، فالينتينا ماتفيينكو، في مطلع ديسمبر الحالي، إنه "يجب العمل على حصر حالات الإجهاض في روسيا على حالتين فقط، هما تعرض المرأة للاغتصاب، والاعتبارات الطبية. نمضي قدماً نحو ذلك، لكن يجب الارتقاء بجودة هذا العمل". وقدرت في تصريحات تناقلتها وسائل إعلام محلية، تراجع عدد حالات الإجهاض بنسبة 25 في المائة خلال السنوات الخمس الأخيرة، معتبرة أن "الأرقام لا تزال مقلقة للغاية".
ووعدت ماتفيينكو بأنه لن يتم حظر الإجهاض، أو إخضاعه للمساءلة الجنائية، مستشهدة بتجربة سابقة للحظر في منتصف القرن الماضي، والتي أسفرت عن تزايد حالات إجراء الإجهاض بصورة غير قانونية، وزيادة الوفيات بين النساء، داعية إلى النقاش حول الأمر وفق "المنطق السليم".
وأعلنت سلطات شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014، ومقاطعتي كورسك وليبيتسك، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عن عزوف العيادات الخاصة بها عن تقديم خدمات إجراء الإجهاض، في حين تبنت السلطات المحلية في جمهورية موردوفيا ومقاطعتي تفير وكالينينغراد، قوانين تحظر التحريض على الإجهاض. واقترح بطريرك موسكو وعموم روسيا، كيريل الأول، تعميم هذه الممارسات على المستوى الفدرالي، مرجعاً ذلك إلى الأزمة الديمغرافية التي تمر بها البلاد.