ربع ساعة في ضاحية بيروت الجنوبية

04 أكتوبر 2024
دُمّر أو تضرّر كثيرٌ من المباني في الضاحية، حارة حريك، 2 أكتوبر 2024 (حسين بيضون)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في ظل التصعيد في ضاحية بيروت الجنوبية، يضطر الرجل للعودة إلى منزله للحصول على جواز سفره، مدفوعاً برغبة في الحفاظ على هويته وذكرياته المرتبطة بالمكان.
- يعيش في شقة أخيه المكتظة بعد تهجيره، ويشهد من الشرفة مشاهد الدمار والغارات الجوية الإسرائيلية التي تخنق الحياة وتزيد التوتر والقلق.
- رغم المخاطر، يجمع الرجل جوازه وأوراقه المهمة، متأملاً الشارع الفارغ، ويغادر محملاً بالأمل في النجاة والعودة إلى وطنه.

الوصول إلى جواز السفر في المنزل المزنّر بأماكن عدة استهدفها الطيران الحربي الإسرائيلي المعادي، هدف مبررٌ وغيرُ قابل لكثير من النقاش لزيارة ضاحية بيروت الجنوبية في زمن التصعيد الكبير. لكن، مع هذا التبرير، هناك بواعث داخلية، يفهمها الأربعيني الذي أمضى عمره كلّه في ما كان يوماً ما مكاناً قصياً من العاصمة اللبنانية، وتحول تدريجياً إلى قلبها، على الأقل بالنسبة له. بواعث ترتبط بتحدي الحفاظ على هويته، وكيانه، وبشوارع يحفظ تفاصيلها، وأشخاص يأنس وجودهم، ومعالم يألفها. 
الليلة السابقة لم يحظَ فيها بغير ساعتين من النوم، فمشهد الصواريخ الآتية من إيران لتغطي سماء فلسطين المحتلة، وما رافقها من أجواء احتفال، انقلب ترقباً وهواجس وآلاماً، مع الغارات المكثفة على الضاحية واتساع رقعة انتشارها وامتداد وقتها من منتصف الليل حتى الفجر.

قضايا وناس
التحديثات الحية

في شقة أخيه المكتظة، والتي لجأ إليها، مهجَّراً لأول مرة مذ كان صغيراً في الحرب الأهلية (1975- 1990) ومعارك دموية بين أشقاء، تكشف الشرفة معظم الضاحية، فمع استثناء صحراء الشويفات، وحيّ السلّم، وحيّ البركات، والأوزاعي، يظهر من هناك المطار، والتحويطة، والمريجة، والليلكي جنوباً، والغبيري والشياح شمالاً، وبينهما برج البراجنة ومخيمها، وحارة حريك وامتدادها الشرقي وصولاً إلى الحدث. ومع هذا المشهد شبه المكتمل، يسمع بالتتابع طيارة الاستطلاع في معظم أوقات النهار والليل، يغطي عليها صوت الغارة والانفجار بعد ضوء لامع ليلاً لا يظهر نهاراً، وفي أوقات فريدة يتصاعد هدير الصاروخ قبل أن يصل إلى هدفه، فيحسب كلّ شخص أنّه يتوجه إليه شخصياً. وفي أعقاب الغارة غبار كثيف ينقلب حريقاً ثمّ دخاناً، بل ربما يبدّلان في ما بينهما أحياناً. هكذا تغطي السماء سحب رمادية غامقة وسوداء من صنع بشر (هل هم كذلك في فعلهم هذا؟) تنافس الغيوم الأصيلة. وهي سحب تحمل كميات هائلة من سموم الكربون التي تصل إلى مسافات بعيدة، فتخنق من تخنق.
على دراجته النارية، يخترق طريقاً لطالما كان مزدحماً، لكنّه لا يحمل الآن غير قلة قليلة من المركبات العابرة بسرعة قياسية. وعلى جانبي الطريق مبانٍ منهارة، بعضها يحمل دخاناً طازجاً، وغيره مضت عليه أيام. كم هو غريب الوقت! كلّ هذه الأحداث لم تبدأ إلّا قبل أسبوعين، يوم تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي، ثم سلسلة اغتيالات قادة حزب الله، ومن بعده عدوان واسع على الجنوب والبقاع خلّف مئات الشهداء والجرحى، مع تهجير كبير، وصولاً إلى اغتيال أمين عام حزب الله، ومن بعده تهجير جديد للضاحية هذه المرة، بموجات قصف لم تستثنِ المدنيين وبيوتهم وأرزاقهم، ومنشآت البلديات، والمرافق الخدمية المختلفة.
الشارع الذي يقطن فيه خالٍ تماماً، فلا سيارة ولا دراجة ولا شخص يمرّ، خصوصاً أنّ مبنى سقط في الشارع المحاذي، قبل يومين. مع وصوله تهرول إليه كلّ قطط الحيّ، كأنّه منقذها. هو يعرف أنّ جاره الحلاق يطعم بعضها، وتتدبر البقية أمرها من الجزار وبائع الدجاج والدكنجي، وغيرهم... لكنّه الآن يشعر نفسه مسؤولاً، فيقرر أن يرى ما بإمكانه أن يفعل، وليس هناك من شيء باستطاعته فعله، فسوف يعرف بعد قليل أنّ عليه الفرار سريعاً، كما أنّه تخلّص الأسبوع الماضي من كلّ ما يؤكل، في شقته.
الساعة الآن الثامنة صباحاً. مدخل المبنى مفتوح لكنّ الصمت والعتمة يعمّانه، إذ توقف الاشتراك الكهربائي في الحيّ عن العمل بعد غياب السكان. كما أنّ كهرباء الدولة قلّما تصل، حتى في الظروف والأوقات الاعتيادية. وفي غياب المصعد، يضطر، على ضوء هاتفه، إلى تسلق السلالم حتى الطابق السابع بسرعة تصاحبها ريبة وتوجس من احتمال بدء الغارات في أيّ لحظة.

عندما يصل، يزداد توجسه، إذ يتخيل احتمالات الصاروخ وهو يضرب المبنى ويكوم أوزاناً هائلة من الأنقاض فوقه، أو يطيّر جسده إلى الشارع. لكنّه، مع ذلك ينسجم مع تبريره الأصلي ويبحث عن جواز سفره وبعض الأوراق الأخرى فيصل إليها، ثم يرفع التحدي، ويقصد المنشر الذي كان قد وضع فوقه الغسيل قبل أسبوع، فيلمّ ملابسه، ويجهز نفسه للذهاب. يقف على حافة الشرفة، ويفكر في تصوير الشارع كاملاً بالفيديو كذكرى أخيرة قبل دمار المكان. لكنّه رغم ثبات قدميه هذه المرة، يرفض التصوير، تفاؤلاً بنجاة وعودة. ويهبط السلالم محمّلاً بكيس ملابسه وجوازه، فيصل إلى دراجته، محافظاً على تفاؤله فيما يغادر الضاحية، إذ ربما تُكتب له، ولبلده، النجاة مرة بعد.

المساهمون