رامي "الناجي الوحيد" يدفن زوجته وأطفاله الثلاثة

15 نوفمبر 2023
رامي مع زوجته آمنة وابنته ليليا (العربي الجديد)
+ الخط -

"يا ليته كابوس نصحو منه". عبارة يرددها الكثير من الغزيين. فلا أكثر من الموت في قطاع غزة اليوم. تُروى القصص على لسان ناجين. لا يفوّتون أبسط المشاهد. استشهدت آمنة (33 عاماً) ومعها أطفالها ديالا (13 عاماً) وكريم (9 سنوات) وليليا (عام ونصف العام).  
هؤلاء هم أفراد أسرة الشاب رامي الوادية (36 عاماً)، الذي صار يطلق عليه اسم "الناجي الوحيد". بقي حياً ليروي تفاصيل المجزرة التي أدمت قلبه وجعلته وحيداً. تكسّرت أظفاره وسال الدم من يديه حين كان ينبش بين الركام بحثاً عن جثثهم. يقول إن أشلاءهم طُحنت تحت المنزل الذي نزحوا إليه وقصفته الطائرات الإسرائيلية في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، يوم التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. 
وكانت الأسرة قد أجبرت على النزوح تحت تهديدات القتل الإسرائيلية، كونها تسكن في برج السوسي الذي استهدف عام 2021 ويقع غربي مدينة غزة. فذهبت آمنة مع أبنائها إلى مخيّم الشاطئ للاجئين حيث تعيش عائلتها، فيما توجه رامي إلى بيت شقيقه في حي تل الهوى، ثم التقيا في دير البلح كنقطة أخيرة للنزوح، وبقيا في منزلين منفصلين يفصل بينهما شارع في ظل اكتظاظ النازحين في المكان الذي قصدته الزوجة.
يضيف رامي: "كنت أذهب إليهم يومياً، نأكل معاً ونفترق عند النوم لتوفير مساحة في المنزل المكتظ بالنازحين. قبل استشهادهم بيوم، كانت تصرفات كريم غريبة. عانقني أكثر من مرّة. استغربت وسألت أمه عنه. إذ بدا وكأنه لم يرني منذ عام". ويقول إن "كريم قطف وردتين من حديقة المنزل، أهداه واحدة وقال: حافظ عليها يا بابا. وأعطى الثانية لأمه التي أهدتها إلي وقالت: كمان هذه حافظ عليها يا رامي". ثم ضمّه بقوة وكاد أن "يكسّر ضلوعه". ربّما كان محظوظاً بلحظات الوداع هذه. 
عند الواحدة فجراً من يوم المجزرة، هزّ القصف أرجاء المنطقة. ركض من دون وعي باتجاه المنزل. لم يكن يعلم أنه سقط فوق رؤوسهم، لكن إحساسه قاده إلى هناك. قيل إن هناك أصوات تحت الركام، فتسلّل الأمل إليه وراح ينبش. عُثر على كريم في أرض فارغة بجانب المنزل، طار من شدّة الضربة. ثم عثر على ديالا تحت ركام المنزل بعد ساعات على القصف. لم تظهر جثّة ليليا ولا آمنة. قال حينها إنه راضٍ. المهم أن يجد أمونة كما يحب أن يناديها، "فهي حبيبتي ورفيقة عمري التي ستصبرني على الفقدان. من دونها لن أصمد". 

في الوضع الطبيعي، يطلب الناس الإسعاف والدفاع المدني فور حدوث الانفجار. تحضر الفرق وتبدأ عملية الإنقاذ خلال دقائق. في غزة، صار الناس يحسدون الشهداء المحظوظين في أولى أيام العدوان، كونهم انتشلوا من تحت الأنقاض ودفنوا. أمّا اليوم، فقدْ فقدَ الموت هيبته، ويدفن الشهداء تحت الركام.
استغرقت رحلة النبش ثلاثة أيام. ذاب قلبه وهو يبحث عن جرافة تساعد بإزالة الركام علّه يجد زوجته حية. انتشلت يداه قدم امرأة من دون جسد. لم تكن لآمنة، وصلت الجرافة فحسمت الأمر. بدت تظهر الجثث. "آمنة وشقيقتها إسراء وشقيقهما شهاب وزوجته وطفلاه الاثنان وزوجة أخيهما محمد وجنينها الذي كان يفترض أن يحل بين هذا العالم بعد أسبوع من تاريخ المجزرة".

شقيق رامي يودع الأطفال قبل دفنهم (العربي الجديد)
شقيق رامي يودع الأطفال قبل دفنهم (العربي الجديد)

ولانتشال ليليا قصة أخرى. عمّمت صورتها على المستشفيات بعدما قال أحدهم إنه شاهدها حية، وكانت لديها المواصفات نفسها. حدّق الأب في غالبية الفيديوهات التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي للناجين من المجازر، وتحديداً الأطفال. راقب كلّ الأخبار وزار كلّ غرف مستشفى شهداء الأقصى الذي يستقبل الجرحى في تلك المنطقة على مدار أكثر من أسبوع، لكنه اكتشف أن هذه الناجية ليست صغيرته، بل ابنة الجيران التي تحمل مواصفات شبيهة.
لم تشهد العائلة مراسم دفن، ولم يحمل الشهداء فوق الأكتاف ولم يستطع رامي تقبيلهم. وضعوا في كيس واحد في مقبرة جماعية، فيما دفن كريم وجدته وخالته شيرين وزوجها في قبر واحد في اليوم الأول من قصفهم. يقول: "لن نحتفل بعيد ميلاد ديالا. لن أشتري الفستان الذي طلبته ولا البنطال. لن نشتري كعكة العيد والشموع. لم يعد لدي ديالا. انتزعوا روح ابنتي مني. قتلوها وأبسط أمنياتها الاحتفال بيوم ميلادها".

الطفلان ديالا وكريم (العربي الجديد)
الطفلان ديالا وكريم (العربي الجديد)

يتابع أنها كانت تحلم بأن تصبح خبيرة تجميل. وهذا ما حاولت فعله. تجرب مساحيق التجميل وتهتم بتنسيق ملابسها، تختار ألوانها بعناية وتتجادل مع أمها دائماً وتغلبها.  
يقول إن كريم "كان من الأوائل في مدرسته، ويحب لعبة ببجي، وقد طلب أن أشتري له ملابس عيد تحمل اسم اللعبة. كان يحب البحر كثيراً ومرافقتي ووالدته في السوق، والذهاب إلى بيت جده واللعب مع أولاد خالته". يضيف: "راحوا جميعاً. سيلعبون كعصافير في الجنة". 

لا يتوقف رامي عن تشغيل مقاطع الفيديو الخاصة بأسرته. يشتاق لحبيبته أمونة ويناديها باستمرار. ينقبض قلبه ويشعر أنه سيتوقف فور استيعابه أنها لم تعد موجودة، "فهذه آمنة الحبيبة الحنونة. من سيعوّض قلبي عن هذا الحب؟ من سيضمّد جروحي التي لن تلئم يوماً؟ من سيذكرني بدواء أمي ويطبطب على قلبي المثقل بهموم الحياة في غزة؟". 
يختم حديثه قائلاً: "ودعت كريم الذي كان كالملاك، وهو الوحيد الذي ظل جثمانه كاملاً. غفوت وأنا في عزّ انهياري، دفنتهم في قلبي الذي صار مقبرة تأسرهم تماماً كغزة التي خُطِفت فيها أرواحنا نحن الأحياء الناجين حتى هذه اللحظة". 

المساهمون