دنماركيو مخيم الهول... استحضار حقبة مظلمة من تاريخ كوبنهاغن

08 ابريل 2021
دنماركيون من بين جنسيات أخرى في مخيم الهول (كايت جيراغتي/ Getty)
+ الخط -

 

يبدو أنّ مأساة مخيم الهول، جنوب شرقي محافظة الحسكة  السورية، التي تطاول دنماركيين واقعين تحت رحمة مليشيات قوات سورية الديمقراطية "قسد"، تستحضر حقبة مظلمة من تاريخ الدنمارك مرتبطة باللجوء، عندما قضى آلاف الأطفال اللاجئين الألمان مرضاً وجوعاً.

يعيد السجال الدنماركي حول رفض استعادة كوبنهاغن عدداً من النساء و19 طفلاً دنماركياً في مخيم الهول في شمال شرق سورية والذي تديره مليشيات كردية، تاريخاً مظلماً من سياسات اللجوء الدنماركية إلى الأذهان. وإذا كان اليمين المتشدد ممثلاً بشكل أساسي من حزبَي "الشعب الدنماركي" و"البرجوازية الجديد"، قد حسم الأمر، فإنّ الصحافة المحلية والاسكندنافية تستعيدان في هذه الأيام تعامل كوبنهاغن مع لاجئي ألمانيا في عام 1945. يُذكر أنّ حزبَي اليمين المتشدد اللذَين يقودان حملة تتهم الأطفال بأنّهم "أبناء إرهابيين لا يجب استقبالهم"، يثيران لغطاً حقوقياً وسياسياً، فيما يهاجمان اليسار والليبراليين وتردد حكومة يسار الوسط برئاسة ميتا فريدركسن.

استعادة "التاريخ المظلم" عنوان خرجت به صحيفة "أفتن بوستن" النرويجية، ليعتمده بعدها التلفزيون الدنماركي "دي آر" مع تنامي اللامبالاة وعدم تحمّل كوبنهاغن مسؤولية مواطنيها الذين يعيشون ظروفاً صعبة في المخيم الهول، موثّقة بتقارير أمنية وسياسية ونفسية متخصصة. وبعد مقتل مراهق في ذلك المخيم أخيراً، راح يمين الدنمارك يقترح "تعزيز تمويل حراسة الهول حتى لا يخترقه تنظيم داعش". فأثار هذا المقترح حنق المتابعين واليسار الذين هاجموه وهاجموا فريدركسن التي توافق اليمين المتطرف في مواقفه الخاصة بالتخلي عن هؤلاء الأطفال العالقين هناك. وبالتزامن مع هذا السجال، كُشف عن تقرير أمني أعدّه جهاز الاستخبارات وصُنّف سرياً، فيما وُضع كتقارير أخرى على طاولة السياسيين والمشرّعين محذراً من بقاء الأطفال وترعرعهم وسط تلك الظروف. ورأت الاستخبارات الدنماركية أنّ بقاء المراهقين، معظمهم دون 13 عاماً، في الهول يُعَدّ "أشد خطورة على أمن الدنمارك من استعادتهم". وهؤلاء، موضوع النقاش، هم أطفال وُلدوا بمعظمهم في الدنمارك وأُخذوا برفقة أمهاتهم إلى سورية، فيما أبصر الباقون منهم النور هناك. وعلى الرغم من ذلك، تستمرّ بروباغندا أقطاب اليمين بتصنيف الصغار كما الكبار: خطراً إرهابياً وبالتالي فإنّ استعادتهم ليست من مصلحة الدنمارك.

والنقاش الدائر حول أبناء مقاتلي داعش الذين بقوا مع أمهاتهم أو الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم على حدّ سواء، استدعى استحضار كيفية تعامل كوبنهاغن مع اللاجئين في التاريخ الحديث. ففي الفترة التي كان فيها الجيش الأحمر السوفييتي يجتاح الجزء الشرقي من ألمانيا في فبراير/ شباط من عام 1945، فرّ نحو 250 ألف مدني من هناك، وحملت البواخر هؤلاء من شمال ألمانيا الشرقية إلى ميناء كوبنهاغن، علماً أنّ معظمهم من النساء والأطفال والعجائز. المدنيون اليائسون الذين ظنّوا أنّهم سوف ينجون من الموت بهروبهم نحو الدنمارك، وجدوا أنفسهم في ظروف فظيعة جداً. فقد أدارت المؤسسات الدنماركية كما الشارع ظهرها لهم، بل انتشر التحريض بحقّ هؤلاء اللاجئين الفارين من الحرب، إذ عُدّوا "مسؤولين عن الجرائم النازية"، بحسب ما كشفه أرشيف الدنمارك الذي تناوله التلفزيون والصحف الاسكندينافية في خلال اليومين الماضيين. وعلى الرغم ممّا نقله الفارون من شهادات حول ارتكاب الجيش الأحمر في شرق بروسيا وأراضي شرق ألمانيا، عمليات قتل جماعية انتقامية من المدنيين واغتصابات، فإنّ هؤلاء لم يجدوا العون. والأفظع، وفقاً للأرشيف والشهادات التي استندت إليها تقارير تقارن ما بين تعامل الدنمارك مع لاجئي ألمانيا ولا مبالاتها بأطفال الهول في هذه الأيام، أنّ النساء والأطفال والعجائز تُركوا بلا تغذية ولا رعاية صحية. وقد عجّ مصنع قديم لسيارات "جنرال موتورز" وكذلك قاعات رياضية بهؤلاء المنهكين والمرضى والمصابين بصدمات عنيفة من الحرب.

لم يكتف الدنماركيون في فترة ما بعد تحرير وطنهم من الاحتلال النازي في مايو/ أيار 1945، بتلك المعاملة، بل أقاموا مخيمات اعتقال شبيهة بتلك التي أقامها النظام النازي وكدّسوا فيها المدنيين في ظروف غير إنسانية. ووفقاً لتقرير صحيفة "أفتن بوستن" النرويجية، فإنّ صدمة اللاجئين آنذاك زادت بعدما ظنوا أنّهم فروا إلى بلد ينافس على الإنسانية وعلى التزامات الدول الديمقراطية، لكنّهم وجدوا أنفسهم في محيط مليء بكراهية الألمان العاديين، إذ حُمّلوا ذنب اقتراف النازية جرائم واحتلال البلاد. وسط تلك الأجواء، حُرم عشرات آلاف الصغار والنساء من الطعام والرعاية صحية، وهو أمر ساهمت فيه الجمعية الطبية الدنماركية العامة إذ رأت أنّه لا يتوجّب على الأطباء الدنماركيين مساعدة اللاجئين الألمان إلا عندما يشعرون بأنّهم مضطرون إلى ذلك وعلى أساس فردي، بحسب ما كشفه الأرشيف الدنماركي وتناولته التقارير الإعلامية الأخيرة. وقد ساهمت حركة المقاومة ضدّ النازية وأعضاء نقابة الأطباء في كوبنهاغن في منع مساعدة الألمان، انتقاماً منهم لأنّ السلطات النازية كانت تعدّهم "إرهابيين ومخربين". وفي الفترة نفسها من ربيع عام 1945، أصدرت الداخلية الدنماركية تعميماً على المستشفيات يقضي بعدم تقديم الرعاية الصحية للألمان، إلا في حال كان شخص يعاني مرضاً يمكن أن يعدي الدنماركيين.

يُذكر أنّ تلك السياسة المتطرّفة في العداء للاجئي ألمانيا والتي سبقها في خلال فترة الحرب العالمية الثانية هروب اليهود نحو كوبنهاغن حيث ساعدهم بحارة دنماركيون ومهربو بشر لقاء مبالغ مالية في الهروب نحو السويد التي ظلت محايدة، كانت نتائجها كارثية في تاريخ الدنمارك الحديث.

الصورة
لاجئون ألمان في الدنمارك في الحرب العالمية الثانية 1 (متحف الحرية)
لاجئون ألمان مهمّشون في الدنمارك (متحف الحرية)

ويُحكى عن سبعة آلاف طفل، أكثر من أربعة آلاف منهم دون 15 عاماً، لقوا حتفهم نتيجة الإصرار على المعدية أدّيا إلى فقدان الآلاف أرواحهم، وقد سُجّلت في شهر إبريل/ نيسان من ذلك العام وحده وفاة 2395 طفلاً. والأمراض المعدية التي وقف الأطباء الدنماركيون أمامها من دون تدخل، كانت تنهش بقية اللاجئين، من قبيل الالتهاب الرئوي والحصبة والدفتيريا والتهاب الجهاز الهضمي الحاد. وقد أدّى كلّ ذلك، مع استمرار العدائية والرفض تجاه اللاجئين الألمان، على الرغم من تدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي، إلى خسارة أكثر من 17 ألفاً و200 شخص حياتهم في خلال أربع سنوات فقط، ما بين 1945 و1949، في بلد ظنوا أنّه سيؤمن لهم الحماية كلاجئين فارين من العدوّ أدولف هتلر ومن الجيش الأحمر السوفييتي.

لم يقتصر الأمر حينها على وفاة آلاف بسبب الإهمال المتعمد، ومن بينهم أطفال لا ذنب لهم في حروب النازية، بل إنّ دفنهم لم يكن مسموحاً كذلك على أيدي الدنماركيين. فأُجبر الأسرى الألمان على حفر قبور اللاجئين ودفنهم من دون طقوس وبتهكم. وقد شارك في ذلك سياسيو تلك الفترة بمعظمهم، الذين كانوا يلهبون مشاعر الرأي العام ضد اللاجئين محمّلين إياهم مسؤولية جرائم النازية. وكان بعض البرلمانيين يتلمسون مواقف الشارع المعادية لألمانيا لبثّ خطاب شعبوي يرضي مشاعر العداء، بحسب ما نقلت تقارير صحافية أخيرة، في خلال مقاربات قامت بها ما بين مواقف سُجّلت قبل 70 سنة وأخرى راهنة مرتبطة باللاجئين وبأطفال الدنمارك المتروكين في مخيمات سورية التي يشبّهها البعض بمعتقلات هتلر. ويُصار إلى انتقاد التوجّه نحو ضخّ أموال لتشديد حراسة الهول، بدلاً من إفراغه من المدنيين، نساء وأطفالاً. 

الصورة
لاجئون ألمان في الدنمارك في الحرب العالمية الثانية 2 (متحف الحرية)
لم تكن كوبنهاغن رحيمة معهم (متحف الحرية)

تشير التقارير الصحافية المستندة إلى أرشيف "متحف الحرية"، إلى عملية ترحيل 50 ألف لاجئ ألماني إلى بلادهم، أمّا الذين فقدوا كل شيء في دمار بلادهم وسيطرة الروس على الشطر الشرقي منه، فقد نُقلوا من القاعات والمدارس إلى مخيمات كبيرة محروسة ومسيّجة بأسلاك شائكة، ضمّ بعضها ما بين 15 ألفاً و36 ألف شخص. يُذكر أنّ الأرشيف يتناول مقاومة الدنماركيين للنازية، على الرغم من أنّهم كانوا يسمّون حينها مخرّبين من قبل نخب مجتمعهم آنذاك، مع العلم أنّ كثيرين منهم كانوا جواسيس للاحتلال النازي بهدف الإيقاع برجال المقاومة. 

وأتى التدخل البريطاني لينقذ عشرات الآلاف من الموت جوعاً، وذلك بالشروط السياسية الدنماركية، أي ألا يكون ذلك مستفزاً للسكان الدنماركيين وألا يُمنحوا حقوقاً كلاجئين وألا يُدمجوا في مجتمع البلاد. وقد دخلت كوبنهاغن في مفاوضات مع الحلفاء الغربيين لقبول ترحيل اللاجئين الألمان إلى بلدانهم، وهو ما أدّى عملياً إلى ترحيل الأغلبية، ومنهم رغماً عن إرادتهم إلى مناطق النفوذ السوفييتي، وآخرون نحو غرب ألمانيا وإلى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا برعاية منظمات كنسية دولية. والذين بقوا في الدنمارك ما زالوا حتى اليوم يُعرفون بأنّهم لاجئون ألمان، ويُعرفون من أسماء أسرهم، على الرغم من اندماجهم التام في مجتمع البلاد.

قضايا وناس
التحديثات الحية

استحضار المثقفين والصحافة الدنماركية والاسكندنافية للحقبة السوداء من تاريخ الدنمارك المرتبطة بلاجئي ألمانيا، يأتي بعدما قبلت دول الشمال، والدنمارك منها، بمعظمها حلولاً لاستعادة مواطنيها من الصغار. ويطالب سياسيو اليسار وبعض الليبراليين في البرلمان الدنماركي تبنّي النموذج الفنلندي والسويدي والنرويجي "قبل فوات أوان خسارة الأطفال نفسياً". فيُصار بالتالي إلى استعادة الصغار وإعادة تأهيلهم مع مثول الأمهات أمام المحاكم للتأكد مما حصل معهنّ. هل سافرنَ للانضمام إلى تنظيم داعش أم للالتحاق بأزواجهنّ أم تقطعت السبل بهنّ؟

وكانت هلسنكي وأوسلو قد حكمتا على امرأتَين بالسجن، فيما وضعت برامج خاصة اجتماعية ونفسية لإعادة تأهيل الصغار وإلحاقهم بالمدارس ورياض الأطفال. ولدى الصغار بمعظمهم أجداد يعيشون في دول الشمال، ويبدي هؤلاء (من دون الكشف عن هوياتهم حفاظاً على خصوصية الصغار) رغبة في المساهمة باحتضان الأحفاد. وقد تمكّن جدّ لخمسة أطفال سويديين بعدما قُتلت أمهم في الباغوز واختفى أثر والدهم، من استعادة أحفاده ما بين نهاية 2019 وبداية 2020. وتنقل عنه الصحافة السويدية أنّ "الصغار يبدون تأقلماً رائعاً الآن". يُذكر أنّ أصغرهم كان في عامه الأوّل حين قتلت أمّه. وقد توكّلت رعاية الصغار في مخيم الهول أمهات أوروبيات أخريات، يطالبنَ بإخراج صغارهنّ من تلك الأجواء المشحونة. فالمليشيات الكردية تقايض الدول على استعادة مواطنيها في مقابل اعتراف دبلوماسي ودعم مالي، بحجّة تشديد الحراسة حتى لا يخترق داعش مخيمَي الهول والروج، فيما الصحافة الدنماركية وكذلك السويدية تشيران إلى رغبة كردية في اعتراف اسكندنافي بسيطرة على تلك المناطق في شمال شرق سورية.