قبل أن يلتقط أحدنا أنفاسه وهو يتابع أخبار الزلزال في المغرب، ويتمنى ويدعو أن يتقلص عدد الضحايا والخسائر إلى الحد الأدنى، جاءنا خبر الإعصار دانيال في ليبيا أشبه بصاعقة انطلقت دون سابق إنذار، أو بإنذار لم نتنبه له يقيناً أن ليبيا وجملة بلدان الشمال الأفريقي العربي (تونس والجزائر والمغرب) بعيدة عن الأعاصير التي تضرب في بلدان أوروبا أو أميركا الشمالية والوسط الكاريبي وغيرها.
كلّما داويت جرحاً سال جرح. لم تبرأ بعد المدن والقرى المغربية في جبال أطلس من العمل المضني على انتشال الجثث وإزالة الأنقاض والبحث بين الركام وفتح الطرقات... حتى جاءت العاصفة دانيال في ليبيا كانفجار قذيفة على نحو مباغت. عاصفة طالت مدن بنغازي ودرنة وسوسة والبيضاء والمرج وبرقة وشحات، باختصار معظم مدن المنطقة الشمالية الشرقية وما تحتويه من قرى وبلدات ومزارع وآبار مياه في الجبل الأخضر وحقول تنقيب عن النفط وغيرها.
ولمن لا يعرف تلك المنطقة، نقول إنها تربط بين الغرب الليبي حيث العاصمة طرابلس والحدود الشرقية مع مصر في السلوم والعلمين ومرسى مطروح وصولاً إلى الإسكندرية فالقاهرة. معظم المدن التي نتحدث عنها لها أهميتها في العمران الليبي وتوازن البلاد الديمغرافي والاقتصادي. لكن الحقيقة أنها لم تدفع بالتساوي ثمن كارثة العاصفة. درنة كانت في قلب العاصفة بالنظر لوجود نهر ووادي درنة في وسطها. ومن المعروف أن جميع مناطق شرق ليبيا عدا بنغازي تقع بمحاذاة أو وسط الجبل الأخضر الضخم، إلا أن وقوع نصف درنة تحت مجرى الوادي هو ما أدى إلى ارتفاع حجم الأضرار المادية والبشرية في المدينة. ووادي درنة هو مصب لكل السيول القادمة من جنوب درنة من مناطق المخيلي والقيقب والظهر الحمر والقبة والعزيات. ومع امتلاء الوادي انهار اثنان من السدود التي تحتجز مياه السيول المنحدرة من أعالي مناطق الجبل فكانت الكارثة المحققة.
السدان المنهاران كما يوضح المؤرخ فرج داود الدرناوي هما سد البلاد وسيدي بومنصور اللذان يحبسان في العادة مياه السيول في الوادي. المؤرخ الليبي تحدث عما سماه التاريخ الطويل من خذلان وادي درنة لسكان المدينة. فوادي درنة هو أشهر واد في ليبيا وأبرز معالم المدينة، إلا أنه في الوقت ذاته يشكل مصدر خطر دائم على السكان لتسببه في السابق بكوارث مشابهة لما يعيشه السكان اليوم. ففي عام 1941، حدث فيضان كبير في وادي درنة وضرب المدينة وجرف من قوته دبابات وآليات حربية ألمانية إلى البحر، بحسب الدرناوي.
يضيف أن ذلك حدث أثناء الحرب العالمية الثانية. لذلك، لم يتحدث أحد عن الأضرار البشرية التي وقعت آنذاك، مع الجزم أنها كانت كبيرة. أما عام 1959، فإن فيضانا كبيراً آخر حدث - كما يوضح الدرناوي ـ بسبب ارتفاع مستوى المياه في الوادي أوقع قتلى ومصابين بالمئات ودمر العديد من المنازل، ومن شدة قوته حركت المياه المندفعة الصخرة الكبيرة في درنة، المعروفة بصنب الزيت، إلى مسافة كبيرة من منطقة عين البلاد حتى منطقة وسط المدينة. ويسجل فيضانات أخرى بسبب وادي درنة عامي 1968 و1969 لكنها لم تتسبب بأضرار كبيرة وقتها.
عاصفة ومياه سدين ينفجران بفارق وقت قصير يدمران كل ما في المدينة من جسور وطرقات وأبنية... باختصار كل ما يصادف السيل مهما كانت صلابته. ثلث المدينة تقريباً تعرض للتدمير. أحياء بكاملها محيت عن وجه الأرض وتحولت مع سكانها ومكوناتها إلى مجرد جثث في المساحات الفارغة بين الأحياء، أو بين أنقاض السيارات والأعمدة الكهربائية وبقايا الأثاث أو وصلت إلى البحر. يجب أن تمر أيام أو أسابيع عديدة كي يستطيع الأهالي تقدير عدد المفقودين بدقة، وخصوصاً أولئك الذين أبيدوا كعائلات على نحو كامل.
تحتاج ليبيا إلى وقت طويل كي تضمد جراح الفيضان الراعفة، هذا إذا تجاوزت مناقراتها السياسية – الحكومية – النيابية وخلافاتها الجهوية. لكن الوقت الأطول هو الذي هي بأمس الحاجة إليه كي تعيد بناء مرافقها ومؤسساتها وطرقاتها، ولإزالة ملايين الأمتار المكعبة من الطين الذي جرفته السيول، واستقر في طرقاتها مضيفاً إلى أشلائها أشلاء. على أن بناء المرافق والمؤسسات كهياكل إسمنتية لا يعني بأي حال من الاحوال عودتها إلى وظائفها في بلد كل ما فيه مؤجل إلى ما شاء الله، بدليل حال الدوران منذ سنوات وعقود في حلقة مفرغة لا مهرب منها ولا منفذ. وعليه، لا يفيد إعلان الحداد وإبداء التضامن مع ذوي المصابين والقتلى لأنه بعد أيام سترجع المناكفة بين القوى السياسية.
وبين كل المؤسسات التي يجب النهوض بها تأتي المدارس والجامعات في المنطقة، لأن الأهل قد يصبرون على الكثير مما يحتاجون إليه بعد الكارثة، لكنهم لن يصبروا على غياب الصفوف الدراسية والمعلمين لأبنائهم وبناتهم.
وما يدفع هذا التوجه ما خسره التلامذة والطلاب الليبيون في غضون السنوات المنصرمة من فاقد تعليمي، بالنظر إلى حال الفوضى السياسية وتنافر المرجعيات في الشأن التربوي، كما في الشأن السياسي والاقتصادي والأمني. ولعل قسماً من الليبيين الذين غادروا البلاد إلى مصر شرقاً أو تونس غرباً، كان تعليم أبنائهم وبناتهم يحتل الأولوية. ومن المعروف أن الانقسامات السياسية أفرغت المرجعيات المسؤولة عن التعليم من القدرة على تنفيذ قراراتها.
وما زاد الطين بلة هو وجود قوى أمر واقع على الأرض تتخذ قراراتها دون أي حساب لأيام الدراسة والامتحانات وما شابه من حياة مدنية. وباعتبار أن احتمال تعطل الدراسة يظل قائماً بالنظر إلى الاشتباكات التي تندلع هنا وهناك في ظل أوضاع أمنية هشة، تتراجع الكفاءات وجودة التعليم حتى الحدود الدنيا، وينخفض عدد المؤسسات التعليمية نتيجة ما تتعرض له بعضها من تدمير، أو استعمال من جانب المسلحين الذين لا يعبأون بمصير أساتذة وتلامذة المؤسسة التعليمية ومستقبل أجيال جديدة. أمر يقود إلى تدني عدد الطلاب في مختلف المراحل وتراجع مستوى التحصيل.
العاصفة ونتائجها في المنطقة الشرقية وخصوصاً في درنة المنكوبة أكثر من سواها، يضاعف الهوة التي يعانيها التلامذة والطلاب الليبيون في شتى مراحل التعليم. ولعل الصحوة العارضة قد تدفع القوى السياسية المتطاحنة لإدراك المخاطر التي تحيط بالبلاد في السياسة والعوامل المناخية أيضاً، وتحثها على تجاوز خلافاتها والعمل سوياً على الحد من الخسائر والأضرار الفادحة التي تتراكم كل يوم.
(باحث وأكاديمي)