بعدما رأت منزلها يُحرق وشقيقها يُقتل، لم تجد إنعام مفرّاً سوى الهروب من مدينة الجنينة في السودان إلى تشاد، هرباً من انتهاكات قد ترقى إلى "جرائم حرب" تعيد إلى سكان إقليم دارفور ذكريات مريرة. منذ اندلاع المعارك في السودان بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو في 15 إبريل/ نيسان، شهد إقليم دارفور بغرب البلاد بعضاً من أسوأ أعمال العنف التي ترافقت مع انتهاكات إنسانية وجنسية، وجرائم قتل على أساس عرقي، وعمليات نهب واسعة النطاق، كما تؤكد منظمات إنسانية وشهود، في ظل انقطاع شبه تام في الاتصالات بالإقليم.
وتقول الناشطة الحقوقية إنعام إن مسلّحين ينتمون إلى قوات الدعم السريع وقبائل عربية حليفة لها: "أحرقوا منزلنا وكل منازل الحي. قتلوا أخي أمام عينيّ" في مدينة الجنينة مركز ولاية غرب دارفور. تتابع إنعام التي تحدثت عبر الهاتف من شرق تشاد، وطلبت استخدام اسم مستعار حماية لأقاربها الذين لا يزالون في الجنينة: "عندما خرجنا كانت الجثث في كل مكان والنيران مشتعلة في البيوت، لذا سلكنا طريقاً بعيداً حتى لا يقابلنا الدعم السريع أو المسلحون العرب".
الفرار لا يوفر الحماية
في ظل الظروف الراهنة، اضطر عشرات الآلاف في الجنينة ودارفور إلى ترك منازلهم. إنعام واحدة من أكثر من 150 ألف شخص لجأوا إلى تشاد، وفق أحدث أرقام منظمة الهجرة الدولية. وفي مختلف أنحاء السودان، بلغ عدد النازحين مليوني شخص وفقاً للأمم المتحدة، كما فرّ نحو 600 ألف شخص إلى الدول المجاورة، بعدما أوقعت الحرب الدائرة في البلاد حتى الآن أكثر من ألفي قتيل، وفقاً لتقديرات يرى خبراء أنّها أقلّ بكثير من الواقع.
ويتحدر غالبية الفارين إلى تشاد وأفريقيا الوسطى من إقليم دارفور المكوّن من خمس ولايات ويمتد على ربع مساحة السودان، ويقطن فيه ربع عدد سكان البلاد المقدّر بـ 48 مليون نسمة. لكن الفرار لا يوفر حماية فورية، إذ تؤكد منظمات إنسانية أن سكان دارفور عانوا الأمرّين للهروب من مناطقهم. ونقلت منظمة "أطباء بلا حدود" شهادة السودانية سلمى (اسم مستعار) وتبلغ من العمر 18 عاماً، والتي تعرضت شقيقتها للاغتصاب من رجال مسلحين أثناء فرارهن من مدينة الجنينة.
وتحكي سلمى أنه في ظهر الخامس عشر من يونيو/ حزيران، أوقفهن ستة رجال مسلحين وقاموا باغتصاب واحدة من شقيقتيها تبلغ من العمر 15 عاماً. وتقول سلمى، كما نقلت عنها أطباء بلا حدود: "احتجزوها لبعض الوقت داخل الحافلة. وبعدما انتهوا منها، ألقوا بها خارجها وغادروا".
وفي ظل صعوبة الاتصال مع مختلف ولايات الإقليم، تنتشر على مواقع التواصل تسجيلات وصور تظهر نزوح الآلاف من سكان دارفور إلى الحدود مع تشاد.
جحيم الجنينة
منتصف الشهر الجاري، قتل والي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر، بعد ساعات على اتّهامه قوات الدعم السريع بـ "تدمير" مدينة الجنينة. واتهم الجيش قوّات الدعم السريع بخطف واغتيال أبكر، إلا أنها أدانت من جهتها مقتل الوالي، مؤكّدةً أنّه جرى "على أيدي متفلّتين على خلفية الصراع القبلي المحتدم بالولاية".
كما حمّلت الأمم المتحدة قوات الدعم مسؤوليّة "العمل الشنيع". وقالت بعثة المنظمة في بيان: "تنسب إفادات شهود عيان مُقنعة هذا الفعل إلى المليشيات العربية وقوات الدعم السريع"، داعيةً إلى "تقديم الجناة بسرعة إلى العدالة وعدم توسيع دائرة العنف في المنطقة بشكل أكبر".
وتؤكد أطراف ومنظمات دولية أن الجنينة هي الأكثر تعرضاً لأعمال العنف في دارفور خلال الأسابيع الماضية. ووصفت الوضع فيها بـ "الخطير جداً" منذ مطلع يونيو/ حزيران. وقال منسق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في دارفور طوبي هاروارد: "أُحرقت الأسواق، ونُهبت الخدمات الصحية، وتجوب المدينة جماعات مسلحة تقتل الناس بطريقة عشوائية غالباً بسبب عرقهم"، مضيفاً أنه "وضع خطير للغاية يمكن أن يتحول بسرعة إلى كارثة إنسانية إذا لم تستعد السلطات السيطرة وتُفرض هيبة الدولة".
ويقول محمد (اسم مستعار) الذي كان يسكن الجنينة وفر إلى أدري في تشاد: "منذ بداية الحرب والنظام الصحي بأكمله خارج الخدمة"، مضيفاً: "لا كهرباء ولا ماء ولا اتصالات. جميع صهاريج المياه دمرت ولم يعد هناك سوى الآبار للحصول على المياه"، مشيراً إلى أن من يقرر الذهاب إلى الآبار يتعرض لاستهداف القناصين.
وبالنسبة لتدبير المواد الغذائية، يوضح محمد أن الأسواق الصغيرة التي فتحت أبوابها لخدمة المواطنين "تعرضت للنهب". ويوضح المتحدث باسم أطباء بلا حدود: "لم يهدّد النزاع حياتهم من العنف المباشر فحسب، بل أثّر أيضاً على نيل الرعاية الصحية، ما ينعكس على كل شرائح المجتمع بما فيها من يعانون الأمراض المزمنة، الحوامل، الأطفال، ومن يحتاجون لرعاية طبية، كما أن توفّر الضروريات الأساسية مثل مياه الشرب النظيفة بات مقيّداً بشكل حاد". ويروي إبراهيم عيسى، وهو أستاذ مدرسة فرّ من الجنينة إلى تشاد: "خرجنا من الجحيم. أعادت لنا الحرب ذكريات عامي 2003 و2004 حين كان القتل متصلاً بالهوية والعرق". ويقول محمد: "تم توقيف العديد من الفارين على الحدود من قبل المسلحين. يسألونك عن هويتك واسمك وقبيلتك، والبعض يتعرض للتصفية".
عنف عرقي
أطلق اسم دارفور على الإقليم لأنه كان موطناً لشعب الفور قديماً. وبتواتر الأجيال أصبحت المنطقة تضم بين سكانها مجموعات قبلية، بينها العرب مثل قبائل الرزيقات التي ينتسب إليها دقلو، ومجموعات عرقية أفريقية مثل الزغاوة والمساليت والتي يتحدر منها والي غرب دارفور أبكر.
وكان إقليم دارفور ساحة لحرب أهلية مريرة عام 2003 بين متمردي الأقليات العرقية الأفريقية وحكومة الرئيس المعزول عمر البشير التي كان غالبية أعضائها من العرب. وأوقع النزاع نحو 300 ألف قتيل وشرّد 2،5 مليون شخص، بحسب الأمم المتحدة.
وأثناء حرب 2003، استعان البشير لمساندة قواته بمليشيات "الجنجويد" التي شكّلت بعد ذلك نواة قوات الدعم التي أنشأت رسمياً في 2013. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي توقيف بحق البشير وبعض مساعديه لاتهامهم بارتكاب إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وأعربت منظمة العفو الدولية في بيان عن قلقها "إزاء التقارير التي تُفيد بوقوع عمليات قتل موجهة ذات دوافع عرقية على أيدي قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها". في هذا الصدد، يقول محمد: "ليس هناك علاقة بين الحرب في دارفور وما يحصل في الخرطوم. في البداية، كان النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع لكنه تحول إلى حرب أهلية على أساس الهوية". ويشير إلى تاريخ العنف القديم بين المجموعات العربية والدعم السريع ضد مجموعة المساليت العرقية الأبرز في غرب دارفور والتي تتخذ من الجنينة عاصمتها التاريخية.
من جهتها، اتهمت المساليت قوات الدعم السريع، بحسب تقرير أعدته عن الأوضاع في الجنينة في الفترة من 24 إبريل/ نيسان وحتى 12 يونيو/ حزيران، بارتكاب معظم الانتهاكات في المدينة. وأفاد التقرير بأن "انعدام الأمن وغياب سيادة الدولة أدى إلى مقتل أكثر من خمسة آلاف شخص وما لا يقل عن ثمانية آلاف جريح". وكان الشقيق الأكبر لزعيم المساليت من بين القتلى. لكن لم يتسن التحقق من هذا العدد بشكل دقيق ومستقل في ظل الأوضاع الراهنة. وأكدت المساليت في تقريرها أنه نظراً "لتدهور الوضع الأمني بمدينة الجنينة مع الانتشار الواسع للقناصة على أسطح المنازل والأماكن المرتفعة، أصبح المواطنون في الجنينة يواجهون مصيراً مجهولاً لناحية فقدان الأمن والمأوى والغذاء والدواء".
وتشير إلى "حرق وتدمير جميع مراكز إيواء النازحين البالغ عددها 86"، بالإضافة إلى "نهب وحرق قصر سلطنة دارمساليت"، مطالبة المجتمع الدولي بوضعه تحت "الوصاية الدولية".
حامية أم دافوق
كانت قوات الدعم السريع أعلنت في بيان "الاستيلاء الكامل" على حامية عسكرية مهمة في منطقة أم دافوق الحدودية مع جمهورية أفريقيا الوسطى في جنوب دارفور. في هذا الإطار، يقول ضابط سابق في الجيش السوداني سبق وعمل في منطقة أم دافوق، إن "سيطرة الدعم السريع على الحامية يزيد من فرص حصول قواتها على إمداد خارجي عبر حلفاء في مليشيا فاغنر المنتشرة في أفريقيا الوسطى". ويوضح أن "هذه السيطرة ستنقل الصراع السوداني من شأن داخلي إلى إقليمي"، زاعماً أن "المعلومات تفيد بأن قوات الدعم السريع التي هاجمت حامية أم دافوق جاءت بـ 250 عربة وألفي مقاتل من داخل حدود أفريقيا الوسطى".
من جهتها، تتحدث منظمة العفو الدولية عن "أوجه تشابه مثيرة للقلق بين العنف الجاري وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في دارفور منذ 2003. وحتى أولئك الذين يبحثون عن الأمان لا يسلمون من هذا العنف".
وكانت المستشارة الأممية الخاصة المعنية بمنع الإبادة أليس نديريتو قد وصفت العنف في غرب دارفور بأنه "مروّع"، محذرة في حال استمراره "من أن يتطور إلى حملات متجددة من الاغتصاب والقتل والتطهير العرقي، التي ترقى إلى مستوى الجرائم الفظيعة". وبالنسبة إلى إيما دي نابولي المحامية في القانون الإنساني الدولي، "ترقى جرائم عديدة تم التبليغ عنها في دارفور إلى جرائم ضد الإنسانية أو حتى جرائم حرب"، مضيفة أنه "يجب على الناشطين على الأرض الحفاظ على الأدلة بأفضل شكل ممكن، لأن هذا ضروري للمحاكمات المستقبلية أمام المحكمة الجنائية الدولية أو أي مكان آخر".
(فرانس برس)