حظيت خطة "أوليز" التي طرحها عمدة لندن صادق خان والقاضية بتوسيع منطقة الانبعاثات شديدة الانخفاض إلى أحياء العاصمة البريطانية لندن الخارجية بمباركة المحكمة العليا، بعد أيام قليلة على الانتخابات الفرعية وخسارة حزب العمال المعارض منطقة أوكسبريدج وساوث روزليب بفارق ضئيل أمام حزب المحافظين الحاكم.
ومع أنّ خان رحّب بالحكم التاريخي الذي نطقت به المحكمة العليا نهاية الأسبوع الماضي، إلا أنه أكّد في الوقت نفسه نيّته "معالجة مخاوف سكّان لندن"، لا سيما وأنه تحمّل وحيداً عبء الخسارة التي مني بها حزبه في تلك الانتخابات. وكانت كل استطلاعات الرأي تشير بداية إلى تقدّم كبير للحزب المعارض في المنطقة التي تنحّى عنها الزعيم المحافظ السابق ورئيس الوزراء السابق بوريس جونسون. إلا أن خطة أوليز لتوسيع منطقة الانبعاثات المنخفضة لم تحظ بشعبية كبيرة بين الناخبين ولا بإجماع كافة الأحزاب والزعماء بمن فيهم زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر، الذي طلب من العمدة العمّالي "إعادة التفكير" بالخطة. لكن خان ظلّ ملتزماً بخطته التوسعية قائلاً: "القرار صعب للغاية، وعلى الأشخاص الرافضين لشرب المياه الملوثة أن يرفضوا أيضاً استنشاق الهواء الملوث".
وكانت خمسة مجالس بلدية يديرها حزب المحافظين الحاكم قد شنّت حملة قانونية في فبراير/ شباط الماضي ضد خطة العمدة العمّالي، والتي ستدخل حيّز التنفيذ في 29 أغسطس/ آب ما سيفرض رسوماً قدرها 12,50 جنيهاً استرلينياً في اليوم الواحد على سائقي المركبات الملوّثة للهواء والتي لا تستوفي معايير أوليز، أي سيارات البنزين التي تم تصنيعها قبل عام 2006 وسيارات الديزل التي تم تصنيعها قبل عام 2016. مفارقة طريفة
كان بوريس جونسون أول من أعلن عن خطة "أوليز" في 26 مارس/ آذار عام 2015 من موقعه آنذاك كعمدة مدينة لندن، مؤكداً أن هذا الإجراء "أساسي للمساعدة في تحسين جودة الهواء في مدينتنا وحماية صحة سكان لندن والمضي في تقدّمنا كأعظم مدينة على وجه الأرض". ودخلت الخطة حيّز التنفيذ عام 2019 في الأحياء الواقعة في وسط العاصمة. أما العمدة العمّالي الحالي صادق خان، فقد أعلن عن توسيع الخطة لتشمل كل أحياء المدينة البالغ عددها 33 منطقة وليس المركز فقط، بحجة أن التوسع سيشمل فقط 200 ألف مركبة من أصل 2,3 ملايين، كما أن عدداً ضئيلاً من الناخبين سيتّأثر من الخطة التوسعية الجديدة "إذ تتوافق تسع من كل عشر مركبات مع معايير أوليز".
وتكمن المفارقة هنا في أن جونسون هو من بادر إلى خطة تخفيض الانبعاثات، إلا أن المحافظين أنفسهم عارضوا الخطة لاحقاً ولجأوا إلى الوسائل القانونية والطعون والمحاكم. كما أن مقعد أوكسبريدج وساوث روزليب أضحى شاغراً قبل أسابيع قليلة بعد تنحّي جونسون على خلفية تضليله المتعمد للبرلمان والرأي العام. وكانت كل استطلاعات الرأي تشير إلى تفوق حزب العمال في تلك المنطقة، إلا أن الخطة التوسعية غيّرت المعادلة وتسبّبت على ما يبدو في خسارة الحزب المعارض، ولو بفارق ضئيل.
مؤخراً، أصدرت هيئة لندن الكبرى تقريرها المتعلق بجودة الهواء وتغير المناخ ومستويات التلوث في لندن، وخلص إلى أنه على الرغم من إحراز تقدم في الحد من تلوث الهواء منذ عام 2016، يتوقع أن يستمر تعرض سكان المدينة لثاني أكسيد النيتروجين والجسيمات الملوثة بتركيزات أعلى من إرشادات جودة الهواء التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية. وطالب التقرير "باتخاذ المزيد من الإجراءات الهامة لتقليل التلوث". وأشار إلى مسألة "عدم المساواة" في التوزّع الجغرافي للهواء الأكثر تلوثاً، إذ إن مجتمعات الأقليات الأكثر حرماناً تعيش في المناطق الأكثر تلوثاً من العاصمة، بينما المناطق التي تشهد تركيزاً أقل من التلوث فيها عدد غير متناسب من السكان البيض. ووجد التقرير أن "عدم المساواة في التعرض للتلوث بين المجموعات العرقية يبدو أكثر وضوحاً في المناطق الخارجية منها في وسط لندن".
ومع أن الطعون القانونية التي رفعها المحافظون ضد الخطة قد رفضتها المحكمة العليا نهاية الأسبوع الماضي، إلا أن حزب العمال المعارض خسر معركته السياسية في منطقة أوكسبريدج وساوث روزليب. واللافت أن معظم الأحزاب السياسية في بريطانيا العظمى لا تبدو شديدة الاكتراث أمام أكثر القضايا إلحاحاً في هذه المرحلة وهي قضية تغير المناخ، عندما يتعلق الأمر بالخسارة السياسية وصناديق الاقتراع. ولم يبد حزب العمال المعارض أي تمسّك بخطة خان على الرغم من الحكم النهائي الذي أصدرته المحكمة العليا، كما أن النواب العماليين ألقوا باللائمة على الخطة التوسعية معتبرين أنها السبب في خسارتهم، ما دفع وزيرة المالية في حكومة الظل راشيل ريفز إلى القول إن "الوقت غير مناسب لفرض رسوم إضافية على الناخبين نظراً لأزمة غلاء المعيشة".
إلا أن السبب الأساسي في تلك الخسارة هو الحزب الحاكم نفسه، المسؤول الأول والأخير عن الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها ملايين البريطانيين، ما يجعل قدرتهم على تحمّل أي عبء إضافي مهما انخفضت قيمته، ضعيفة. وإلى جانب الخسارة السياسية التي تسبّبت بها الخطة، ثمة خسارة عالمية أكبر منيت بها قضية "تغير المناخ والنقاشات الدائرة حولها، إذ أن خطة خان التوسعية وما أدت إليه من خسارة سياسية للحزب المعارض فتحت شهية الجناح المشكّك بقضايا المناخ سواء في حزب المحافظين أو العمال أو الأحزاب الأخرى، للحديث مجدداً عن جدوى الانتقال إلى "صافي الانبعاثات الصفري" أو "الحفاظ على هدف 1,5 درجات أو الطاقة المتجددة وغيرها من الأهداف التي يسعى العالم المتقدم لتحقيقها. ويأتي كل ذلك بعد ساعات قليلة من تصريح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن "عصر الاحتباس الحراري قد انتهى مع دخولنا عصر الغليان العالمي" وسط ما شهدته العديد من الدول من موجات حرّ "قاتلة" وحرائق غابات مدمرة.
كان الوصول إلى صافي صفر، وهي النقطة التي تتطابق فيها انبعاثات الكربون مع الجهود المبذولة لامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، هدفاً رئيسياً للحكومة الحالية. لكن رئيس الوزراء ريشي سوناك تراجع عن وعوده مشيراً إلى أن الحكومة لن تعتمد "الإجراءات الأيديولوجية"، وستعمل على تحقيق تلك الأهداف بطرق "ميسورة التكلفة وعملية". كما أن الحزب الحاكم يتجه حالياً نحو منح المزيد من التراخيص للشركات الراغبة في استخراج النفط والغاز من بحر الشمال على الرغم من أن تلك الإعفاءات الضريبية والتراخيص لا تتماشى مع وعودها وتعهداتها السابقة.
وتشمل السياسات الأخرى التي تنوي الحكومة تخفيفها أو تأجيلها أو التخلي عنها بالكامل، هدف 2030 المتمثل في التخلص التدريجي من سيارات البنزين والديزل وضمان أن تستوفي العقارات المؤجرة شروط توفير الطاقة، بالإضافة إلى حظر السخانات التي تعمل عن طريق الغاز من كافة المباني الحديثة اعتباراً من عام 2025، عدا عن ضريبة الهيدروجين وتخفيف الازدحام.
في المقابل، كان لفوز المحافظين في منطقة أوكسبريدج وساوث روزليب، تداعيات حقيقية على المدى القصير والبعيد أيضاً، إذ منح للحكومة ذريعة إضافية للتخلي عن السياسة الخضراء بحجة أن "الناخبين قالوا كلمتهم". إلا أن واقع الفوز والخسارة في تلك الانتخابات الفرعية يشير إلى أن الحزب الحاكم احتفظ بذلك المقعد بغالبية 495 صوتاً فقط أي بأقل من 7210 أصوات حصل عليها في الانتخابات العامة الأخيرة عام 2019. كما أن الدراسة الاستقصائية الأخيرة التي أجرتها شرطة "إيبسوس" تؤكد أن 8 بريطانيين من أصل عشرة قلقون بشأن تغير المناخ، وأن 7 من أصل 10 يشعرون بآثار ذلك التغير ويعتقد نصفهم أن هدف صافي صفر يحب أن يتحقق. ووجد استطلاع آخر أن معظم الناخبين يجمعون على أن الحكومة الحالية لا تفعل ما يكفي لمواجهة أزمة تغير المناخ.