لم يعد "الخان" ضرورة في زمن استقبال الضيوف والتجّار في الفنادق، لكن الأهمية التاريخية للخانات على صعيد استقبال الوفود وإيواء العابرين أو حتى إبرام اتفاقات تجارية يضعها ضمن الآثار التي يجب الحفاظ عليها، ومحاولة إعادة إحياء المهملة أو المهدمة منها، وهو ما حدث مع "خان أوبروق" الذي يعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، ويقع قرب ولاية قونيا التركية، تمهيداً لإدراجه ضمن معالم برامج الرحلات الترفيهية.
وغالبية خانات تركيا شيّدت خلال الحقبة السلجوقية، ويقول الباحث أحمد كانام لـ"العربي الجديد"، إن ذلك كان بسبب ازدهار التجارة، وكثرة الوفود المتجهة حينها إلى الأناضول، وسعي السلاجقة إلى تأسيس دولة اجتماعية، ما أوجد نحو 50 خاناً لم يبقَ منها إلا القليل.
يضيف كانام: "معظم الخانات بنيت على طريقة الأقواس والقباب، وتتضمن زخارف وأعمدة تشكل آثاراً عمرها نحو 800 سنة، وهذا ما يفسر اهتمام تركيا بها خلال الفترة الأخيرة، وتنفيذ مشاريع لإعادة ترميمها وتحويلها إلى معالم سياحية، وقد حظي خان أوبروق، باهتمام وزارة البيئة والتطور العمراني، علماً أنه يقع على طريق يربط قونية بأكسراي، وبعد ترميم جدرانه التي واجهت الإهمال، فتح الخان أبوابه للسياح والزوار".
وقال رئيس بلدية قرطاي، حسن قيلجا، إن "الخان كان مهدداً بالانهيار، في حين يستقبل اليوم 100 حافلة سياحية يومياً، وهو يشكل أحد أدلة أهمية المنطقة استناداً إلى كتابات تاريخية موجودة على جدرانه، ويجري العمل لإدراجه في قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) للتراث العالمي".
وتكثر الخانات بمنطقة آسيا الوسطى والأناضول، وقد شيدتها أسر أو حكام في مراحل تاريخية ترتبط بالغزنويين والقره خانيين والسلجوقيين، ما يدل على الأهمية الكبرى التي أولاها الأتراك قديماً للتجارة وكرم الضيافة. يقول أستاذ تاريخ الفنون بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة نجم الدين أربكان، زكريا شيمشير: "ظهرت النماذج الأولى لخانات القوافل التجارية في التاريخ التركي الإسلامي في آسيا الوسطى باسم (رباط)، أي مراكز مراقبة الأهداف العسكرية، ثم أصبحت أماكن لاستراحة القوافل التجارية ودوابها، ويخبر بأن "نموذج خان القوافل التجارية ظهر في زمن محمود الغزنوي باسم رباط الماهي، ثم بنى القره خانيون والسلجوقيون الكثير منها في آسيا الوسطى وخراسان. وقد أمر السلاطين السلاجقة ببناء خانات القوافل بكثافة بفارق مسافات تراوح بين 30 و40 كيلومتراً بهدف تعزيز الأنشطة التجارية في المنطقة، وتركزت في مواقع الطرق التجارية بعيداً عن التجمعات السكنية، ما جعلها تحمل أهمية عسكرية أيضاً، وهو ما حتم بناءها باستخدام أحجار صلبة وجدران مرتفعة وبوابة واحدة فقط".
ويوضح شيمشير أن "نزلاء الخانات كانوا يبيتون فيها لمدة 3 أيام من دون أي مقابل مادي، ويحصلون على الطعام والشراب مجاناً، كما كان يوجد أطباء عاديون وبيطريون في بعضها. وتظهر كثرة الخانات تعلّق الأتراك بمفهوم الدولة الاجتماعية، إذ كُتب المِنة لله مثلاً فوق بوابة خان السلطان في أقصراي"، ويشير أيضاً إلى أن "مخططات الخانات التي تتضمن ساحتين داخلية وخارجية كانت الأكثر شيوعاً في منطقة الأناضول، وسط تركيا، وأبرزها خان قيزيل أورن، وخان قورو جيشمه بجوار ولاية قونيا، وخان السلطان وخان أغزي قره وخان ألاي في أقصراي، فضلاً عن خان قراتاي في قيصري، كما توجد خانات تحتوي على قسم داخلي مغلق فقط، لكن أعدادها محدودة جداً، مثل خان شرابسا في ألانيا".
ويبقى خان سلطان في بلدة سلطان خاني بمقاطعة آق سراي من بين الأهم والأجمل، وبنيّ باستخدام الرخام في عام 1223 في زمن السلطان السلجوقي علاء الدين كيكوبات، على يد المعماري الدمشقي محمد بن هافلان، والذي بنى أيضاً جامع السلطان علاء الدين في قونيا.
وتضم ولايات الأناضول أكثر خانات البلاد، والتي تعود خصوصاً إلى فترة السلاجقة، لكن هذا لا يعني أن بقية الولايات تخلو من الخانات لأنها كانت أماكن إقامة القوافل والعابرين.
ويخبر كانام بأن فريقاً أكاديمياً تركياً برئاسة البروفسور عثمان أرأفشار، عميد كلية الفنون الجميلة بجامعة المتوسط في أنطاليا، أحصى بعد أربع سنوات من البحوث، وجود 200 خان تعود إلى العهد السلجوقي، وقد بنيت 14 منها في قونيا، و14 في قيصري، و4 في أنطاليا، وأخرى في ولايتي أدرنة وإسبرطا. وتوجد حالياً الخرائط الأصلية للمواقع لدى مديرية الأوقاف التركية.
ولأن إسطنبول كانت عاصمة لحضارات عدة، فهي تحتوي على خانات عدة، أقدمها وربما أهمها خان بالكاباني الذي بني في القرن الرابع ميلادياً، في عهد الدولة البيزنطية، أما الخانات الأخرى فيعود معظمها إلى عهد الدولتين السلجوقية والعثمانية، ولا تزال معظمها قائمة بفعل أعمال الترميم والاهتمام التي تحظى بها.
ولا يمكن المرور بإسطنبول من دون ذكر "خان الفرسان" و"زنجرلي خان" و"خان الحجر"، وخان الوالدة القديمة أحد أكبر الخانات، وبُني في عام 1651 بإشراف السلطانة كوسم، والدة السلطان محمد الرابع.
وتحوّلت وظائف خان الوالدة القديمة من تخزين البضائع القادمة عبر السفن الراسية في خليج القرن الذهبي ونزلاً لإقامة التجار المسافرين إلى تجمّع لورش عمل حرفيي الحديد والفخار والمصابيح والأراجيل والفضة وورش النسيج والخياطة التي تتوزع على طابقين، يضم الأول 153 غرفة، والثاني 57 غرفة.
ويقيّم باحثون "خان غالاتا للمولوية" بأنه مسك ختام الخانات باعتباره أقدم الخانات في الشطر الأوروبي لمدينة إسطنبول، إذ تشير المراجع إلى أنه بنيّ عام 1491 ميلادياً بأمر من إسكندر باشا ليكون مركزاً ومقراً لفرقة المولوية من أجل تقديم نشاطات واحتفالات دينية، لكنه احترق بالكامل عام 1756، ثم أعاد الشيخ المتصوف محمد سامي ديواني بناءه. وتحوّل الخان إلى مدرسة لتعليم التصوف الإسلامي، ثم إلى مدرسة ابتدائية وكلية قبل أن تفتح للسياح كمزار سياحي يعرض أدوات ومستلزمات الدراويش الذين يؤدون عروض المولوية وآلات موسيقية استخدمت عبر مراحل التصوّف منذ "مولانا" جلال الدين الرومي الذي يحتفل الخان بذكرى وفاته خلال ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، عبر برنامج يتضمن الموسيقى ودوران الدراويش بعكس عقارب الساعة.