حليب الأُتُن... تجربة لبنانية تتحدى المألوف

11 فبراير 2021
تعمل دول عدة في إنتاجه (كريستيان ميراندا/ فرانس برس)
+ الخط -

ليس حليب الأُتُن سلعة رائجة، خصوصاً مع ما يرافق الحمير من صور نمطية سلبية في ثقافاتنا، لكنّ شاباً لبنانياً يحاول تحدي المألوف، من خلال مشروعه الخاص بإنتاج هذا الحليب

منذ عامين ونصف العام، اختار الطالب الجامعي اللبناني، يحيى جنيد، البدء بمشروعه الخاص، لعلّه يعينه في دفع جزءٍ من الأقساط الجامعية المترتّبة عليه ويشكّل انطلاقةً لمستقبلٍ واعدٍ، فأنشأ بدعمٍ من والده "مزرعة غزراتا لإنتاج حليب الحمير" في بلدته الواقعة ضمن نطاق عكار العتيقة (شمال لبنان)، لكنّ تدهور الأوضاع الاقتصادية وتفشّي فيروس كورونا الجديد انعكسا سلباً على مزرعته، حاله حال مختلف القطاعات في البلاد. المزرعة التي تُعدّ الأولى من نوعها على صعيد لبنان، كان قد انتشر العديد منها في دول أوروبية وفي إيران والصين وتركيا وغيرها من الدول التي قطعت أشواطاً في مجال تعزيز إنتاج حليب الأُتُن (إناث الحمير)، واستخدامه في الألبان والأجبان والمنتجات العلاجية والتجميلية، علماً أنّه من أغلى أنواع الحليب عالمياً، ما أعطى للحمار قيمةً بعدما ظُلم لقرونٍ، واقتصر دوره على نقل البضائع ورفع الأثقال. جنيد الذي يواصل دراسة الهندسة الكهربائية، في الجامعة اللبنانية الدولية (خاصة)، يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ حبّه للحيوانات منذ صغره، دفعه إلى التفكير بمشروع المزرعة، ويقول: "اخترتُ تربية الأتُن وإنتاج الحليب منها، نظراً لفوائده الصحية المعروفة منذ القدم ولغرابة هذا المشروع وفرادته في لبنان، وقد حفّزني على المضي قدماً أحد الأصدقاء المقرّبين المقيم في ألمانيا، عيد سليم ساسين. انطلقتُ بعشرين أتاناً لكن، مع الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار العلف وغيره من المستلزمات، اضطررتُ إلى بيع القسم الأكبر منها، فتقلّص عددها اليوم إلى أربع".

المرأة
التحديثات الحية

وعن كمية الإنتاج، يلفت جنيد إلى أنّ "كلّ أتان تعطي يوميّاً من 200 إلى 500 ملليتر كحد أقصى. فالأتن لا تحلب كميات كبيرة، كما الأبقار والماعز، كما أنّ مدة حملها تصل إلى حدود 11 أو 12 شهراً، وبعد الولادة بخمسة أشهر تتوقّف عن إنتاج الحليب. وكلّها عوامل، تجعل من هذا المنتج نادر الوجود، ما يعيق عملية البيع والتصريف اليومي أو حتّى محاولة إنتاج الألبان والأجبان ومشتقات الحليب". يضيف: "تواجهنا تحديات عدة، من بينها ارتفاع كلفة الإنتاج مع الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار، لا سيّما أنّ كل أتان تحتاج إلى نصف طن من التبن و200 كيلوغراماً من العلف شهرياً، كما تحتاج إلى خلطة أعلاف متنوّعة وغنية لتدرّ كمية أكبر من الحليب، في حين أنّ الأبقار تدرّ كمياتٍ كبيرة بغض النظر عن نوع العلف. كما أنّ الأتان غير مروّضة ولا يمكن تطويعها بسهولة لحلبها، ما يستدعي الصبر وحسن المعاملة". يتابع جنيد: "يضاف إلى ذلك، تردّي القدرة الشرائية للمجتمع اللبناني، إذ تمرّ علينا أشهر لا نبيع فيها أيّ كمية تُذكر، خصوصاً أنّ سعر 160 ملليتراً من حليب الأتان يُقدّر بـ50 دولاراً أميركيّاً (200 ألف ليرة بالسعر المعتمد في المزرعة، مع أنّه بحسب سعر الصرف الفعلي نحو 450 ألف ليرة). وهو مبلغ لم يعد كثيرون قادرين على دفعه. نعتمد سعر صرف أقل، كوننا نشعر مع الأشخاص المحتاجين لهذا الحليب لأغراضٍ علاجية، فالهدف اليوم هو الصمود لا تحقيق الأرباح".
وإذ يؤكّد أنّ مزرعته ليست استثماراً مجدياً، كغيرها من مزارع الإنتاج الحيواني، يتحدّث جنيد عن "سوقٍ ضعيف وثقافة لم تتقبّل بدايةً فكرة تناول حليب الأتان، فبقيت الفكرة مستهجنة وتطلّبت سنوات لاستيعابها من قبل البعض". ويقول: "نشط السوق بعدما أدرك المواطنون القيمة الغذائية ولمسوا الفوائد العلاجية لهذا الحليب، سواءً لأمراض الجهاز التنفسي، لا سيّما الشاهوق والربو لدى الأطفال، أو التهاب الشعب الهوائية أو التهابات الأذن والأمعاء، غير أنّ قلّة منهم ارتضوا التقاط صورهم ونشر شهاداتهم حول الحليب عبر صفحتنا على فيسبوك نتيجة خجل معظمهم من تناولهم حليب الحمير، وهذه مشكلة نعاني منها".

الصورة

وكان أحد المقالات المنشورة في المجلة العلمية المحكّمة "فود كيميستري" قد خلص إلى أنّ "حليب الأُتُن يمكن أن يُستعمل كبديل للأطفال الذين يعانون من حساسية بروتين حليب البقر، وكبديل عن حليب الأم، بسبب احتوائه الفوائد نفسها، كما لعلاج الأكزيما والتهاب الأمعاء. بالإضافة إلى ذلك، فإنّه أسرع هضماً من حليب البقر، وغني باللاكتوز وأوميغا 3 و6، وبروتين ليزوزيم المضاد للميكروبات والبكتيريا، كما أنّه غني بالكالسيوم، ويعزّز كذلك معدّل امتصاصه في الجسم، ما يساهم في تقوية العظام ومكافحة ترقّقها. ويُستخدم حليب الأتان لأغراض التجميل كشدّ البشرة وتنظيفها من الشوائب".
وتحت عنوان "إقبال متزايد على حليب الأتان في ألبانيا في ظلّ الوباء"، نشرت وكالة الصحافة الفرنسية مؤخراً، تقريراً كشفت فيه الطلب المتزايد في هذه الدولة الواقعة في منطقة البلقان، على حليب الأتُن، باعتباره علاجاً للسعال والتهاب الشعب الهوائية، كما أنّه منتج قريب من حليب الأم غني بالفيتامينات وبمغذيات تساعد على تقوية جهاز المناعة"، مؤكدةً أنّه "لا يزعم أحد أنّ هذا الحليب يحمي من الإصابة بفيروس كورونا الجديد".
من الناحية العلمية، يتحدّث البروفسور في كلية الزراعة في الجامعة اللبنانية (رسمية حكومية)، قسم الإنتاج الحيواني، كمال خزعل، عن حليب الأتان لناحية استخدامه في مستحضرات التجميل والعناية بالوجه والبشرة، وهو المجال الوحيد غالباً الذي يُستخدم فيه في بعض دول الشرق الأوسط، بعدما ثبتت فوائده العلاجية التجميلية، غير أنّه يُستخدم بشكل كبير في ألمانيا وفرنسا وبلدان اسكندنافيا وأغلب الدول الأوروبية، إذ نجد مزارع عدة للحمير، كما للخيول. أمّا الحديث عن "الناحية الغذائية لحليب الأُتُن، فهذا ما يمكن أن نتلمّسه في كثير من المناطق حول العالم، لا سيّما في جمهورية منغوليا، على حدود الصين، حيث يستخدمون حليب الأتن والخيول لإنتاج منتجات غذائية"، يضيف. ويقول لـ"العربي الجديد": "بالنسبة للبنان، فقد كان حليب الأتان يُستخدم قديماً، وما زال، لعلاج مرضى الشاهوق، وقد جرّبه كثيرون وأثبت نجاعته. أمّا قيمته الغذائية لناحية البروتين والفيتامينات وغيرها، فلا تتميّز بشكل كبير عن القيمة الغذائية لحليب الأغنام والماعز والأبقار، لكنّه يحتوي نسبة أعلى من اللاكتوز، ما يجعل مذاقه أكثر حلاوة. غير أنّه باهظ الثمن عالميّاً، نظراً لندرته، وضعف الكميّات والإنتاج وقلّة المزارع المتخصّصة". 

وإذ يلفت إلى أنّ "المجتمع اللبناني وغيره من المجتمعات المماثلة، لا تتقبل بعد فكرة تناول لحوم الحمير أو الخيول"، يكشف خزعل عن "فرصٍ عدة لحليب الأتان في لبنان، إذا تمّ الاهتمام بهذا القطاع، لناحية التصنيع والإنتاج المحلي، خصوصاً لمستحضرات التجميل والعناية بالبشرة، باعتبار أنّ مجال التجميل يلقى رواجاً كبيراً في لبنان، والبعض يستورد مستحضرات مصنوعة من حليب الأتان من تركيا. كما أنّ تعزيز هذا القطاع سيؤدّي إلى خلق فرص عمل وتنشيط الدورة الاقتصادية المحلية، بالأخص في المناطق الريفية". ويشير إلى أنّه يشجّع طلابه دوماً على "إطلاق مشاريع جديدة ومجدية، من مثال تعزيز صناعة أجبان الماعز والأغنام، عوض استيرادها واضطرار التجّار لبيعها بأسعارٍ خياليّة كما هي اليوم بعد أزمة الدولار، إذ بات يقارب سعر الكيلو منها 400 إلى 600 ألف ليرة لبنانية (نحو 50 إلى 75 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق السوداء)".

المساهمون