تحيرك حرّان، وهي مدينة قديمة في بلاد ما بين النهرين تقع حالياً جنوب شرقي تركيا، من أين تبدأ، أكان من التاريخ الذي يعود إلى الألفية السادسة قبل الميلاد، حين اتخذ الآشوريون منها عاصمة لدولتهم، أم من الجغرافيا التي بدلتها الحدود. فبعد معاهدة لوزان 192 (وقعت بين كلّ من تركيا وبريطانيا وفرنسا، وتألفت من 143 مادة أعادت تنظيم العلاقات بين هذه الدول في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى)، باتت المدينة ضمن حدود الجمهورية التركية، في أعقاب انهيار السلطنة العثمانية.
وقد تكون هذه الرقعة الجغرافية مظلومة على الرغم من ثروتها الحضارية وتاريخها وسير من مر بها، على غرار الأنبياء إبراهيم الخليل ويعقوب وشعيب، عدا عن مكانتها أيام الحكمين الأموي والعثماني وغير ذلك.
يقول الباحث والدليل السياحي التركي سردار دونمير إنّه يجب التفريق بين حرّان اليوم، وبين منطقتها الأثرية. فالأولى منطقة متواضعة أقرب بطبيعتها إلى الصحراء، وإن كانت تقع عند منبع نهر الخابور وتحسب ضمن الجزيرة الفراتية، فتمنحها المياه ميزة الزراعة وبعض الخصوبة. أما الثانية، فمن أقدم المواقع المأهولة وتعود للآشوريين أو ربما قبلهم، وإن لم يسلط عليها الضوء إلّا بعد الفتح الإسلامي عام 639.
وعن عودة حران للضوء أخيراً، يلفت إلى الاكتشاف الأخير المتمثل في إيجاد مدرسة تعود إلى القرن الثاني عشر، والتي أضيفت إلى المرصد الفلكي الأثري والجامعة القديمة بعد تنقيب استمر ثماني سنوات. والمدرسة المكتشفة اليوم، بحسب فريق التنقيب، تعود إلى فترة الدولة الزنكية، وتضم 24 غرفة صف مدرسي، وهي على الأرجح واحدة من خمس مدارس كانت قائمة في حران، بحسب كتب التاريخ.
في عام 2017، أعلن خبراء أتراك العثور على حمّام بنّي الجدران، يعود للقرن الثاني عشر، ويُعتقد أنّ صلاح الدين الأيوبي كان قد استخدمه في ذلك الوقت، وهو واحد من 14 حمّاماً. وقال رئيس فريق البحث في منطقة أوران بحران محمد أونال إنّ المنطقة غنية بالآثار التاريخية، لافتاً إلى أنّ أعمال الحفر كشفت عن حمام ذي ثلاث قباب في الطابق الثاني من قصر حران أوتش قلعة، مضيفاً أنّ الحمام يعود إلى عهد إمارة نور الدين الزنكي والأيوبيين في القرنين 12 و13 للميلاد. كما عثر الفريق على متجر للمسك وأوعية عطور مزينة يعتقد أن تاريخها يعود إلى ما قبل ألف عام.
ومع افتتاح موقع "حرّان أوران يري" الأثري أبوابه للزوار، عثر علماء الآثار على قارورة دواء، تعود للقرن الثاني عشر، ويوجد عليها رمز "أسكليبيوس" اليوناني (رمز بارز للطب يتكون من عصا واحدة مع ثعبانين متشابكين حولها)، وهي طينية وطولها 15 سنتمتراً ومعروضة بمتحف شانلي أورفا.
يقول دونمير إن عمليات التنقيب في حران بدأت قبل 70 عاماً من دون انقطاع. وتزيد الاكتشافات من أهمية تلك البقعة. كما تشير إلى أنها كانت مركزاً طبياً مهماً. كما كانت حرّان عاصمة الأمويين في عهد مروان الثاني (الخليفة الأموي الأخير في المشرق)، وتعكس المكتشفات الأثرية فيها خصائص الانتقال من العمارة الرومانية إلى الإسلامية.
وتبقى المنازل الطينية المخروطية من علامات حران الفارقة حتى اليوم، ومن أهم معالم تراث المنطقة الثقافي والعمراني الجاذب للسياح. ويختلف المؤرخون حول تاريخ القباب الطينية. ويقول البعض إن عمرها لا يزيد عن 260 سنة. وفي حران نحو 300 منزل تعود لقرون سابقة، تحافظ عليها تركيا من خلال ترميمها وصيانتها دورياً.
ويقول أهل حرّان إنّ المباني المخروطية في إيطاليا هي نسخة عن منازل مدينتهم. فبعد تناقل تصاميمها عبر الرسوم والصور، انتشرت في العديد من دول العالم، منها إيطاليا. ولهذه البيوت خصويتها، إذ تحتفظ بالبرودة صيفاً وبالدفء شتاء. كل قبة هي سقف لإحدى غرف المنزل، وبالتالي كان من الممكن، عندما كان الطراز المعماري لتلك البيوت هو السائد في المدينة، أن يعرف المرء مكانة أهل البيت عبر عدد قبابه.
وتكون قاعدة تلك القباب مربعة أو شبه مربعة، وتبنى فوقها القباب عبر صف قطع الطوب بعضها فوق بعض بطريقة معينة، وتترك فتحة في قمة القبة لا تسد بشكل كامل، لتسمح لضوء الشمس بالدخول، ولدخان الطبخ أو التدفئة للخروج من المنزل.
ويوضع خليط بين قطع الطوب يتكون من القش، والطين، وزيت الورد، وزلال البيض، كما يستخدم هذا الخليط لدهان البيوت من الخارج، وتسهم تلك المواد بالإضافة إلى التصميم المعماري لتلك المنازل، في جعلها دافئة شتاء، ولطيفة الجو صيفاً.
ومن المعالم الأثرية القريبة من حرّان كهوف بازدا، وخان البارور ومدينة سوغماتار القديمة.