المسافة بين مدينة نيويورك الواقعة على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وبين كل من ولايتي كاليفورنيا أو أوريغون على الساحل الغربي، أكثر من ألفي ميل. لم تكن هذه المسافة الشاسعة كافية لحماية سكان نيويورك من تبعات الحرائق المشتعلة بعيداً عنهم. فقد حملت الرياح والجفاف الدخان المنبعث من حرائق الغابات في الساحل الغربي ووسط الولايات المتحدة إلى الساحل الشرقي، ما أدّى إلى ارتفاع مؤشرات سوء حالة الهواء في سماء نيويورك، واكتست سماء المدينة بما يشبه الضباب. ونصحت السلطات المسؤولة في نيويورك، ومدن أخرى مثل فيلاديلفيا، السكان الذين يعانون من الربو أو أمراض القلب بالإضافة إلى النساء الحوامل وآخرين تجنّب الأنشطة في الهواء الطلق. ووصلت نسبة التلوث في نيويورك إلى مستويات فاقت مدناً مثل كالكوتا في الهند، التي تعاني من جراء تلوث الهواء.
يقول صاحب أحد الأكشاك الصغيرة المنتشرة على أرصفة مانهاتن، حيث يبيع الصحف والمجلات، لـ "العربي الجديد": "كان لون السماء غريباً على نحو لم أشاهده من قبل. نرى الكثير من الضباب في سماء نيويورك في الشتاء ولكن ليس بهذا اللون المائل للاصفرار وسط الصيف. لم أعرف أن للموضوع علاقة بالحرائق على الساحل الغربي. بصراحة، لم أتصور أن تبعات دخان تلك الحرائق قد تصل إلينا. لكن عندما سمعتهم في الراديو يتحدثون عن ذلك، اعتقدت في البداية أنني لم أفهم ما قالوا. وفي النشرة التالية، تأكدت أن ما سمعته كان صحيحاً. هذا مخيف".
ونقل تقرير نشر على موقع الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) عن عالم الغلاف الجوي رايان ستوفر، ارتفاع مستويات تلوث الجسيمات الدقيقة فوق 170 على مؤشر جودة الهواء، وهو مستوى يعتبر ضاراً حتى للأشخاص الأصحاء. ولم تشهد مدينة نيويورك هذا الحجم من مستويات التلوث بالجسيمات منذ أكثر من عقد. وتظهر صور الأقمار الصناعية تغطية الدخان الناجم عن الحرائق لمساحات واسعة من الولايات المتحدة وتحركه تجاه الساحل الشرقي. وتشير الوكالة إلى أن ارتفاع مستويات التلوث وحمل الرياح لجزيئات السخام (ضبوب من جسيمات الكربون، من نواتج الاحتراق غير الكامل للهيدروكربونات) ليس بجديد، لكن لم تكن الكثافة في السنوات الماضية كبيرة إلى هذه الدرجة بشكل يمكن أن يلحظه المرء في سماء نيويورك بشكل عادي. تحمل الرياح جزيئات السخام، المعروفة باسم PM2.5، التي تنتج عن الحرائق من الأشجار والنباتات لمسافات بعيدة. وتعدّ هذه الجزيئات خطيرة، وخصوصاً إذا كانت متواجدة بالهواء بكثافة كبيرة. ويمكن أن تسبب عدداً من المشاكل الصحية عند استنشاقها.
ويقدّر المركز الوطني للإحصاء في الولايات المتحدة أن النيران طاولت حوالي مليون و600 ألف فدان هذا العام، أي أكثر من خمسة أضعاف مساحة مدينة نيويورك. والتهمت ألسنة النيران المشتعلة في أكثر من 12 ولاية أميركية وبعض المناطق في كندا الأشجار والمباني والمزارع والسيارات والمواشي وكل ما وجدته أمامها. الصور المأخوذة من تلك المناطق مرعبة، حيث يحارب رجال ونساء الإطفاء ألسنة نيران وكأنهم وسط جهنم. وبحسب المركز، فإن نحو 22 ألف شخص يعملون على إطفاء هذا النيران في الولايات المتحدة حالياً. وتكافح طواقم العمل هذه 86 حريقاً مستعراً على الأقل في جميع أنحاء الولايات المتحدة من أصل ستين ألف حريق سنوياً. وتقع معظم هذه الحرائق في الولايات الغربية، حيث ترتفع نسبة الجفاف. وعلى الرغم من أن الحرائق ليست بالأمر الجديد على تلك الولايات، لكن المختصين يلاحظون أن فترة انتشارها أو موسمها أصبح أطول في ظل ازدياد فترات الجفاف والحر. في هذا السياق، كانت حاكمة ولاية أوريغون، كيت براون، قد حذرت، خلال مقابلة لها على محطة "سي أن أن" الإخبارية، من زيادة نسبة تلك الحرائق، لافتة إلى أنها ستصبح الوضع الطبيعي الجديد الذي يجب التكيف معه. وقالت: "حرائق الغابات أصبحت أكثر شراسة ومن الواضح أن هناك تحديات أكبر في التعامل معها وهي واحدة من علامات التغير المناخي وتأثيراته. يجب أن تكون هذه صرخة إنذار من أجل العمل لمكافحة ارتفاع حرارة الكوكب. تغير المناخ حقيقي ويأتي كالمطرقة التي تضربنا على الرأس. علينا أن نتحرك ونتخذ الإجراءات اللازمة".
إلى ذلك، يعزو الخبراء السبب الرئيسي وراء اشتعال خمسة وثمانين في المائة من حرائق البراري في الولايات المتحدة إلى أخطاء بشرية، تنجم غالبيتها عن الإهمال، كعدم إطفاء نيران معسكرات التخييم بشكل جيد، وأعقاب السجائر التي ترمى من دون أن تطفأ، وترك المعدات المعطلة، واحتراق الحطام، بالإضافة إلى أعمال حرق متعمدة. لكن زيادة الجفاف بسبب التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة يجعلان الأرض مهيأة لإمكانية اشتعال تلك النيران لمدة أطول وانتشارها بشكل أسرع وأوسع. كما تشتعل المئات منها بسبب الصواعق التي تزداد نسبتها وحدّتها مع التغير المناخي، لتصبح إمكانية إشعالها للغابات أكبر مع زيادة الجفاف والنباتات الجافة. بالإضافة إلى ما سبق، تزيد بسبب تلف الغطاء النباتي في فصل الصيف، الناجم عن نقص سقوط الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. هنا، يشير الخبراء إلى زيادة عدد الذين يتركون المدن في ولايات ككاليفورنيا وينتقلون للعيش بالقرب من الغابات، وقد اتسعت رقعة المناطق السكنية التي يتم تشييدها بالقرب من الغابات بسبب زيادة الطلب عليها، الأمر الذي يزيد من نسبة الحرائق.
ويزيد ارتفاع متوسط درجات الحرارة بسبب التغير المناخي من تلك المخاطر. إذ تراجعت نسبة الأمطار الربيعية على مدار السنوات الماضية، الأمر الذي يزيد من نسبة الجفاف، في وقت باتت موجات الحر الشديد أطول. ووصلت درجة الحرارة في منطقة "وادي الموت" في جنوب صحراء كاليفورنيا في 11 يوليو/ تموز الجاري إلى 54.4 درجة مئوية للعام الثاني على التوالي. ففي أغسطس/ آب 2020، أعلنت هيئة الطقس الوطنية الأميركية أن قراءة مقياس للحرارة في منطقة فيرنس كريك الواقعة في وادي الموت وصلت إلى 54.4، لتصبح أعلى درجة مئوية يجري تسجيلها على مستوى العالم منذ أكثر من 100 عام.
وتشير ورقة بحثية صادرة عن "خدمات البحث في الكونغرس" الأميركي نشرت في 15 يونيو/ حزيران الماضي، إلى أن معدل الحرائق في الولايات المتحدة بين عامي 2011 و2020 وصل إلى أكثر من 62 ألف حريق بري سنوياً، وأن تلك الحرائق تغطي نحو 7.5 ملايين فدان سنوياً. وخلال العام الماضي، طاولت النيران 10 ملايين فدان. كما تشير إلى أن نحو أربعين في المائة منها تحدث في ولاية كاليفورنيا. وبالمقارنة بين تسعينيات القرن الماضي وما بعد عام 2000، فإن مساحة الأراضي التي تحترق سنوياً تضاعفت.
وبالإضافة إلى التبعات المناخية الناجمة عن تلك الحرائق، فإنّ الخسائر الاقتصادية ضخمة وتشكل عبئاً متزايداً على اقتصاد تلك الولايات. ويقسم الخبراء تلك الكلفة والخسائر إلى أقسام عدة، منها الكلفة الناجمة عن المحاربة الفعلية لتلك الحرائق وقد وصلت في السنوات الخمس الأخيرة إلى نحو ملياري دولار سنوياً، بحسب مركز مكافحة الحرائق الوطني المشترك بين الوكالات (NIFC)، ومقره ولاية إيداهو. وهناك ما يتعلق بما يسميه المختصون بالخسائر المباشرة، بما فيها الخسائر المتعلقة بالممتلكات كالبيوت والسيارات والمحلات التجارية. وتشير تقديرات العام الماضي إلى أنها وصلت إلى عشرين مليار دولار. لكن هناك تبعات "غير مباشرة" بما فيها انخفاض قيمة الأملاك في تلك المناطق ومعها خسائر في نسبة الضرائب والعائدات وكلفة التبعات الصحية على سكان تلك المناطق، بما فيها التلوث الناجم عن تلك الحرائق ناهيك عن الخسائر في القطاع السياحي وخسائر تنظيف التبعات البيئية كتلوث الأنهار وغيرها. وتقدر بأنها وصلت في عام 2020 إلى ما بين نحو 130 و150 مليار دولار في كاليفورنيا وحدها.
وتلفت منظمة "هيدواتر ايكونوميكس" (Headwaters Economics)، وهي منظمة أميركية مستقلة غير حكومية تعنى بالبحث والدراسات حول تحسين تنمية المجتمع واستغلال الأراضي، إلى أن عدد المباني التي تضررت ودمرت، بما فيها البيوت والمحلات التجارية والمباني العامة، خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة بسبب الحرائق البرية، وصل إلى قرابة التسعين ألف مبنى في الولايات المتحدة. في هذا السياق، تشير إلى أن الحديث عن مساحة الفدانات التي ضربتها النيران من دون الحديث عن أمور أخرى لا "يرقى إلى مستوى قياس التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والنفسية المتنوعة لحرائق الغابات. علاوة على ذلك، فإن التركيز حصرياً على حجم حرائق الغابات يغفل التمييز المهم بين حرائق الغابات "الجيدة والسيئة". إذ تعد النيران عملية بيئية ضرورية وتوفر فوائد للنظام البيئي. فيمكن أن تؤدي حرائق الغابات الكبيرة منخفضة الشدة، حيث لا توجد منازل، إلى تجديد الغابات وتجديد التربة، بينما يمكن أن تؤدي حرائق الغابات الصغيرة شديدة الخطورة التي يصعب السيطرة عليها وقمعها بسرعة إلى نتائج مأساوية.
مهما تكن الأسباب التي تؤدي إلى نشوب الحرائق البرية، فإن الحكومة الفيدرالية كما الحكومات المحلية تواجه تحديات شديدة في ما يخص التعامل مع تبعاتها بعيدة المدى، والتي لا تقتصر على الولايات التي تنشب فيها الحرائق. بل إن تبعاتها أكبر كذلك على مناطق أخرى ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل خارجها.