"نحط الأسعار. لما يستقر الدولار". عبارة مسجوعة ساخرة، يكررها بائع الفاكهة المصري شحوت على زبائنه الذين يطالبونه بوضع لافتات توضح سعر كل فاكهة حتى لا يتعرض للمساءلة.
يشتهر الفاكهاني شحوت بين أهالي منطقة كعابيش في الجيزة بأنه يقرض الشعر، ويعرف الزجل، ويمارسهما خلال تعامله مع الزبائن، وهي طريقة خفتت مؤخراً مع تراجع البيع، أو ما سماه خلال حديثه لـ"العربي الجديد" بموسم "السوق المريض" ليستبدلها بمداعبة زبائنه عبر السخرية المريرة من الأوضاع.
الزبائن بدورهم، لا تقل معاناتهم عن معاناة البائع، فالحاج راشد العامري، قرر تغيير طبيعة مشترياته من الفاكهة، واختار شراء كيلوغرام واحد من كلّ من اليوسفي والبرتقال والموز، والتخلي عن نيته شراء أصناف أخرى، إذ وجد الستيني المتقاعد أنّ جنيهات معاشه تضاءلت قيمتها. يقول العامري لـ"العربي الجديد": "أمشي في سني الكبير هذا مسافات طويلة للتنقل بين المتاجر. أقارن بين أسعار السلع التي تتفاوت بشدة بين بائع وآخر، فكل منهم يبيع وفق مزاجه، ومن المعتاد ألا تجد السعر مدوناً على أي سلعة".
تسود منذ فترة حالة من الفوضى في الأسواق المصرية، تصاعدت حدتها خلال الأسبوعين الماضيين مع كل انتظار للقرارات الصادرة عن البنك المركزي، والتي كررت زيادة سعر الفائدة على الودائع استعداداً للتعويم الكامل للجنيه المصري، ليصل إلى مستوى سعره في السوق السوداء، والذي يدور حول 35 جنيهاً للدولار الواحد صعوداً وهبوطاً، بينما السعر الرسمي للدولار نحو 25 جنيهاً فقط.
ضبطت شرطة التموين في مصر، نحو 2023 مخالفة تموينية خلال عام 2022، من بينها مخالفات حجب سلع غذائية، والبيع بأعلى من السعر المقرر، والاستيلاء على السلع المدعومة، لكن ذلك لا يضبط السوق المضطرب.
تسود حالة من الفوضى العارمة أسعار السلع في الأسواق المصرية
عاد مصطفى، وهو صاحب سوبرماركت، إلى إحدى قرى مركز أبوتيج بمحافظة أسيوط (جنوب)، خالي الوفاض، عقب فشله في شراء بضائع من المتعهد لتوزيع المواد الغذائية، والذي اعتذر قائلاً إنه فشل بدوره في الحصول على حصته من موزع أكبر، مؤكداً أن "الأسعار تتغير كل ساعة، والجميع بانتظار السعر الجديد للبيع به".
وضاعف إلغاء اجتماع البنك المركزي الاستثنائي قبل نحو أسبوعين، اضطراب الأسواق، وبلغت الفوضى حد قيام متاجر ومخازن كبرى للسلع الغذائية، وغيرها من المستلزمات المعيشية الأساسية، بغلق أبوابها أمام تجار التجزئة، فيما اكتفت متاجر أخرى بعرض بعض ما لديها، وتخزين كميات أكبر تحسباً لارتفاع السعر، حسب متعاملين في السوق.
تعتمد زينب مصطفى، وهي باحثة أكاديمية، في ميزانيتها على الراتب الشهري والنفقة التي تحصل عليها من طليقها للإنفاق على ابنيها، وقبل انتهاء ثلثي الشهر، وجدت نفسها عاجزة عن استكمال الاحتياجات الأساسية للعائلة، وتقول في حديثها لـ"العربي الجديد": "خلال يومين فقط، زاد سعر عبوة الحليب أربعة جنيهات، وارتفع سعر زجاجة الزيت عشرين جنيهاً، والخضروات زادت أسعارها بنسبة لا تقل عن الربع، وكذلك الفاكهة. التهمت زيادات الدخل، لتنتهي الميزانية قبل العشرين من الشهر".
تتعالى أنات الشكوى من زيادات الأسعار، ما اضطر الحكومة إلى اتخاذ قرارات نادرة للجم الأسعار الآخذة في التزايد كل يوم، وأحياناً بين ساعة وأخرى، من بينها العودة إلى نظام "التسعيرة الجبرية" التي كان معمولاً به من قبل، لإلزام التجار بسعر موحد، في ظل انتقادات لهذه القرارات باعتبارها غير عملية.
شكلت الحكومة لجنة لتسعير نحو 15 سلعة وصفتها بالاستراتيجية، ووضعت مهلة أسبوعين للتجار أملاً في إنهاء الأزمة خلال شهرين، حسب تصريحات لمسؤولين. تشمل قائمة السلع التي يتم تسعيرها السكر، والأرز، والدقيق، والمكرونة، والشاي، والزيوت بأنواعها، والدواجن، والبيض، واللحوم، والأسماك.
ويأتي تشكيل اللجنة متعارضاً مع قانون لـ"جهاز حماية المستهلك"، ينص على تسعيرة استرشادية، والعمل على خلق المنافسة والوصول إلى السعر العادل، فيما يجب حل مشكلة الإنتاج بما يسهم في ضبط السوق، ثم التحرك لتفعيل عنصر المنافسة حتى القضاء على أيّ ممارسة احتكارية للسلع.
وتؤشر نتائج قرارات سابقة على "شكلية" مثل هذه القرارات الحكومية، والتي يرى مراقبون أنّها تستهدف تهدئة المواطنين فحسب، بدليل أنّ قرار توفير الأرز في الأسواق بسعر يدور حول 15 جنيهاً لم يتحقق.
ارتفع صياح مشترٍ بأحد فروع متجر كبير حينما لم يجد الأرز، وطالب إدارة الفرع بعرض "المخفي" من الأرز الذي كان لديهم بكميات ضخمة قبل دقائق من وصوله، حينما أبلغه جاره بتوافره بهذا الفرع. في السجال الدائر بين مدير الفرع والمشتري، والذي شهده مراسل "العربي الجديد"، اعترف المدير بأنه "كانت توجد كمية من الأرز، لكنها بيعت كلها فور وصولها، رغم تحديد إدارة المتجر اثنين فقط من الأكياس زنة كيلو غرام واحد لكلّ مشتر". انكسرت لهجة المشتري وهو يناشد مدير المتجر محاولة التصرف في كيسي أرز، وقال بلهجة أقرب إلى البكاء: "أريد أن أطعم عيالي".
ومع تحسب المصريين لاختلاف السعر بين ساعة وأخرى، راجت طرائف ممتزجة بالمرارة والسخرية من الوضع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها القول إنه "من الوظائف المستجدة بالمتاجر، وظيفة مبدل ملصقات الأسعار"، فيما انتشر رسم كاريكاتيري يطالب فيه بائع جائل سيدة بأن تدفع له ثلاثة جنيهات إضافية لأن السعر زاد خلال قيامها بإنزال السلة للحصول على السلعة.
ويروي يسري عبد الجواد، الذي يعمل نجاراً، لـ"العربي الجديد"، موقفاً حدث معه في فرع لسلسلة متجر شهير، حين اشترى عبوة من أحد أصناف قهوته المعتادة، وكان سعرها زاد عشرة جنيهات دفعة واحدة، لكنّه حين وصل إلى مكان الدفع، فوجئ بعامل المتجر يسارع إليه ليقول له إن السعر زاد مجدداً، وباتت الزيادة عشرين جنيهاً، وليست عشرة فقط.
وقائع شبيهة يحكيها مستخدمو مواقع التواصل، باختلافات طفيفة في التفاصيل، من بينها ما يصفه الموظف حامد عبيد، بـ"الغش العلني" في الأوزان، ويقول لـ "العربي الجديد"، إنّ "شركات الأرز والسكر مثلاً باتت تكتب على العبوات سعراً ملزماً للكيلوغرام، لكنها في الوقت نفسه تقلل الوزن المباع على أنه كيلوغرام، أما رداءة النوعيات فحدث ولا حرج. أتعرض للحرج حين تقول زوجتي إن ما أحضرته لا يكفينا أسبوعاً، ولن يصمد لإطعامنا سوى يومين، والأقسى أن أطفالي يتضجرون من نوعية الأرز والمكرونة، فيما ندعي أنا وأمهم أننا نستسيغها لكي يأكلوا".
مطالبات بتوضيح حقيقة ما يحدث في السوق المصري من ارتفاع متكرر للأسعار
تقدم عضو مجلس النواب نائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي؛ فريدي البياضي، بطلب إحاطة موجه لرئيس الحكومة يطالب فيه بـ"توضيح حقيقة ما يحدث في السوق المصري من ارتفاع متكرر في الأسعار؛ بالتزامن مع ارتفاع أسعار صرف الدولار في السوق السوداء، ما يعكس حالة من الذعر وعدم الأمان التي يعاني منها كل المواطنين باختلاف طبقاتهم". ولفت النائب في بيان له إلى أن "استمرار هذه الأوضاع في ظل غياب المعلومات وعدم الوضوح يؤدي إلى مزيد من الاضطراب في الأسواق، ومزيد من الإشاعات المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية"، مطالبا رئيس الحكومة بالمثول أمام مجلس النواب وتقديم بيان للشعب؛ فيه مصارحة ومكاشفة للوضع الاقتصادي والمالي الحالي للدولة، بما فيه وضع قرض صندوق النقد الدولي، وما يصاحبه من إجراءات اقتصادية تؤثر على المواطنين، وتوضيح ما ستفعله الحكومة من خطوات لضبط الأسعار، وما إذا كان هناك نية لتحريك آخر، أو تحرير كامل لسعر الصرف؛ وتوضيح ما ستفعله الحكومة من إجراءات لحماية المواطنين الأكثر تضرراً، وتعويضهم عما أصابهم من عواقب التضخم غير المسبوق.
وعادة ما يلقي مسؤولو الحكومة أسباب الأزمة على التجار "الجشعين" باعتبارهم يستثمرون الأزمة "للتربح الفاحش". في حين يدافع رئيس شعبة المواد الغذائية بالغرفة التجارية، هشام الدجوي، عن التجار بوصفهم "ضحايا، ومتضررين من ارتفاع الأسعار التي أدت إلى تآكل رأس المال". وضرب الدجوي خلال مداخلة هاتفية مع قناة محلية، مثالاً بسعر طن الزيت المقدر بـ1000 دولار؛ ما يعني أن سعره 25 ألف جنيه، ورغم ذلك يباع بـ60 ألف جنيه؛ مشدداً على ضرورة لقاء الجهات المعنية بالمستوردين لمعرفة أسباب ارتفاع الأسعار.
ويطالب النائب عادل ناصر، رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية بالجيزة، بضرورة الالتزام بقرارات تدوين الأسعار على كلّ عبوة باللغة العربية، وبخط واضح، بخاصة للسلع الاستراتيجية، مؤكداً أنّ تدوين السعر على المنتجات سيسهم في ضبط الأسعار، ويمنع التلاعب.