تحتل جزيرة كورسيكا الفرنسية في البحر الأبيض المتوسط، بسبب طابعها وأسلوب حياة سكانها، مكانة مميزة لدى الفرنسيين الذين يطلقون عليها تسمية "جزيرة الجمال"، فهي المكان الأفضل الذي يوفر العمر المديد والصحة الجيدة لكبار السن في القارة الأوروبية، والذي تستعيد ربوعه الزمن الجميل لعيش الأجداد بطرق مختلفة أكثر راحة.
يظهر الجمال الطبيعي لـ "جزيرة الجمال" كورسيكا التي تتميز ببحرها الفيروزي وحقولها الخضراء المحاطة بجبال، ويعتبر سكانها في مقدمة من يعيشون مدة أطول ويتمتعون بصحة جيدة. وهم يفسرون هذه الميزات بعبارة "الطقس والطعام"، كما ذكر رجل مسن لقناة "بي إف إم" الفرنسية، معلقاً بالقول إن "درجة حرارة الشتاء لا تقل عن 17 درجة، في وقت يرتجف سكان الداخل الأوروبي من البرد القارس، خصوصاً في شمال القارة".
على شواطئ رملية نظيفة في أجاكسيو، المدينة الرئيسية في جزيرة كورسيكا، يقضي المتقاعدون والسياح غالبية أوقاتهم، ويعيشون يومياتهم ببطء وبلا توترات تخلقها وتيرة الحياة المتسارعة في المدن، "إذ لن يجد أي شخص نوعية حياة مماثلة في أي مكان آخر"، كما تنقل قناة "بي إف إم" عن سيدة مسنّة تدعى ماري نويل تحدثت بفخر عن "تمتع السكان الذين يعيشون متوسط عمر يبلغ 84 عاماً بصحة الشباب".
وبحسب أرقام الإحصاء الأوروبي (يوروستات) الذي نشر عام 2020 يبلغ متوسط عمر سكان جزر مايوركا ومينوركا وإيبيزا في إسبانيا 83.9 عاماً، مع ملاحظة أن الرجال في هذه الجزر يعيشون عمراً أطول من النساء. وفي جزيرة سردينيا الإيطالية ثمة ما يسمى "مناطق زرقاء" تضم عدداً كبيراً من السكان المعمرين فوق الـ100، علماً أن متوسط عمر الرجال والنساء فيها هو 81 عاماً.
وفيما تتشارك غالبية جزر البحر الأبيض المتوسط، وبينها أيضاً إيبيروس اليونانية التي حلت ثالثة على قوائم "يوروستات"، ميزات العيش الصحي المديد، ثمة ما يسترعي الانتباه لدى أولئك الذين يبحثون عن أساليب حياة تؤثر في الصحة والعمر.
حمية المتوسط
انطلاقاً من بساطة حياة سكان البحر الأبيض المتوسط اخترع أشخاص في المدن الكبيرة، بهدف التربح، ما يطلقون عليه حمية البحر الأبيض المتوسط، علماً أن هذه الحمية غير موجودة فعلياً على أرض الواقع لأن سكان مناطق البحر المتوسط يعيشون على نظام غذائي طبيعي اعتمده أسلافهم بعيداً عن صخب الحياة وتسارع وتيرتها التي تجلب القلق والتوتر، والذي نشر ثقافة تناول الطعام السريع وسط الضغوط الكبيرة للأعمال والحياة.
وفي موروث "المتوسطي العربي" استخدم الأجداد زيت الزيتون بدلاً من الدهون الحيوانية والزيوت المهدرجة، والكثير من الخضروات والبقوليات والأسماك، في مقابل كميات قليلة من اللحم.
وزيت الزيتون منتج مشترك بين سكان جزيرة كريت اليونانية والجزر في إسبانيا وجزيرة كورسيكا، وبعض المناطق العربية.
ومنذ خمسينيات القرن العشرين، توصل الباحثون إلى كيفية منع أمراض القلب والأوعية الدموية الأكثر ارتباطاً بأسباب الوفاة، وذلك عبر "حمية المتوسط" التي روّجت كنظام غذائي تسويقي يعتبر سياقاً طبيعياً عادياً ويومياً لملايين السكان في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
ببساطة يعتمد العيش المديد في مناطق العيش الصحي على ما يتناولونه من طعام وخضروات وفاكهة طازجة، وعادات الاستمتاع بالحياة تحت أشعة الشمس في مناخ معتدل ودافئ معظم أيام السنة.
وفيما يتمسك سكان كورسيكا وجزر أخرى في البحر المتوسط بتقاليد وثقافة الغذاء والعيش من دون توتر ونمط حياة غير معقد، تغزو أسواق الداخل الأوروبي، حتى بين كبار السن، وجبات الأطعمة السريعة، ومنها الجاهزة لتسخينها في "أفران الأشعة"، وأيضاً ممارسات العيش في أجواء يغلب عليها "رمادية وظلام" خلال فصل الشتاء الذي يوّلد ظاهرة "كآبة الشتاء"، في حين يقضي سكان سردينيا وكورسيكا وقتهم على الشاطئ أو في مقاه قريبة من الكورنيش، ويلتقي كبار السن تحديداً للاستمتاع بلعبة تدرّب ذاكرتهم وخلايا أدمغتهم، وترفع منسوب هرمونات السعادة الحقيقية لا التجارية.
بالطبع ليست أجواء الاسترخاء تحت أشعة الشمس وترك التوترات ترفاً، إذ يؤكد باحثون كثيرون أنها مهمة لاستدراج الصحة البدنية الجيدة والمثالية.
وتقول اختصاصية التغذية الأميركية، مايا فيلر: "يشمل النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط 22 بلداً، ويتميز بخصائص فريدة من أعشاب وأطعمة تتضمن الكثير من التوابل، وأيضاً خيارات واسعة من الحلويات. أما أساليب الطهي فتركز على الخضر والفواكه والفاصوليا والعدس والحبوب الكاملة والمأكولات البحرية أكثر من اللحوم والدواجن. والمكونات الطازجة عالية الجودة، وتقنيات التحضير البسيطة تجعل النكهات غير عادية".
الصحة والوعي أولاً
ورغم أن سكان جزر البحر الأبيض المتوسط لا يمارسون الرياضة اليومية كما يفعل نظراؤهم في الداخل الأوروبي مع انتشار هوس التدرب على اللياقة في مراكز مزودة بالتدفئة، فهم يتحركون بصورة شبه دائمة في الهواء الطلق لأداء مهمات يومية، حيث يتجول كبار السن مع آخرين مرتدين ملابس صيفية في وقت يشكو زملاؤهم في دول إسكندنافيا من برودة أطرافهم.
وثمة شيء مهم آخر توصل إليه متابعة صحة سكان جزر البحر الأبيض المتوسط، ويتعلق بالحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية القوية بين الأقارب، وتكوين صداقات مستمرة تمتد أزمنة طويلة. ومقارنة بغيرهم من سكان شمال أوروبا تعتبر علاقاتهم لافتة بعادات تناول المشروبات الكحولية، فالاحتفالات الاجتماعية لا تتطلب استحضار ما تستحضره الموائد في غرب وشمال أوروبا من شتى أنواع زجاجات الخمور.
وعلى طاولات أبناء كورسيكا وغيرهم، سواء في اجتماع الأسر أو أثناء اللعب بالورق أو الدومينو، يتناول المسنون كأس نبيذ صغيرة، كما فعل أجدادهم طوال قرون في ثقافة تحدد العلاقة بالمشروبات خارج حدود التأثير على وعي وصحة السكان.
وهكذا لم يكن غريباً على سبيل المثال أن يشكو سكان مايوركا الإسبانية من وصول أفواج سياحية شبابية من شمال أوروبا تبدأ في احتساء الخمور على متن الطائرات وحتى انتهاء أسبوع السياحة، وتترافق مع ضجيج وعراك أزعج سكان مايوركا، وأثارته بطريقة بدت مخجلة بعض القنوات التلفزيونية الاسكندنافية التي لفتت الانتباه إلى أن هذه الظواهر مؤذية، وتضرّ بسمعة دولها.
واللافت أيضاً أن أسلوب عيش سكان سردينيا لا يلحظ نقل أشخاص كبار في السن إلى دور رعاية، أو حتى العيش بمفردهم، فهم يعيشون مع باقي أفراد أسرهم، ويستمرون في جعل أنفسهم مفيدين عبر العمل في البستنة على سبيل المثال، والمشاركة بفعالية كبيرة في رعاية أحفادهم.
ثقافة الرعاية
وتنتشر غالباً في ثقافة جزر البحر المتوسط ثقافة رعاية الكبار في السن في آخر أيامهم على يد أفراد من الأسرة. ويعتبر ذلك أمراً من الواجبات التي تتحملها النساء بالدرجة الأولى، وليس بناءّ على "رغبة" كما يفعل بقية الأوروبيين في الشمال.
باختصار تساهم عوامل عدة في جعل نوعية حياة سكان جزر البحر الأبيض المتوسط أفضل من غيرها في بقية أنحاء أوروبا، وهذا ما عاشه الأجداد على طول شواطئ المتوسط قبل أن يصير مقبرة أحلام لآلاف نحو "الفردوس المفقود" على ضفافه الشمالية.
وتبقى الإشارة إلى أن خبراء أوروبيين يتوقعون أن تتصدر إسبانيا القارة الأوروبية في متوسط عمر الإنسان عام 2045، بمتوسط 87 سنة.