ينتظر الجرحى وعائلات شهداء الثورة التونسية فتح ملفاتهم التي تراوح مكانها منذ نحو 11 عاماً، إذ لم يحاسب القتلة ولم تبت القضايا التي رفعتها العائلات أملاً في العدالة ومحاسبة قتلة أبنائهم. أكثر من ذلك، لا يحصل الجرحى على علاجهم وحقّهم في الأدوية والعيش الكريم.
وتمرّ السنوات في وقت يكبر وجع أمهات الشهداء يوماً بعد يوم. بل تزداد معاناتهن في كل مناسبة وذكرى، وحتى أصواتهن باتت خافتة لشدة ما تألمن. لم يعد للألم مكان ولا للشهيد عنوان. تحتفظ أم السعد، والدة الشهيد مجدي منصري، والتي تقطن حي التضامن في العاصمة تونس، بثياب ابنها الملطخة بالدماء، وثوبها الذي كانت ترتديه عندما ارتمى في حضنها ابنها المصاب لحظة الوداع. وتقول لـ "العربي الجديد": "السنوات مجرّد رقم بالنسبة إلي. أشعر أن استشهاد ابني حصل بالأمس، لن أنسى تفاصيل ذلك اليوم (شهر يناير/ كانون الثاني 2011) إبان أحداث الثورة التونسية عندما غادر مجدي مع صديقه إلى حي مجاور لتقديم واجب العزاء، ولم يكن يدري أن العزاء سيتحول إلى بيتنا بعدما أصابته رصاصة اخترقت جسده وقلبه وأردته قتيلاً".
وتؤكّد أم السعد أن الوضع ساء ويسوء، إذ إن معاناة عائلات الشهداء مستمرة. وبدلاً من تكريمهن، يواجهن الذل ويهانن. لكن أكثر ما يؤلمها ويحز في نفسها أن القتلة يطلق سراحهم الواحد تلو الآخر على الرغم من وجود أدلة وشهود. وشهد مسار التقاضي صعوبات عدة، وكانت بدايتها بالمحاكمات العسكرية ثم المدنية، لكن سرعان ما يطلق سراح الجناة. وتشير إلى أن مسار العدالة الانتقالية لم ينصفهم، فقد مضى نحو 3 أعوام وهم يحضرون الجلسة تلو الأخرى. إلّا أنّ الحقائق تطمس أمامهم بل بدأوا يفقدون الأمل في محاسبة الجناة. تضيف أن لا القائمة ولا التعويضات يمكن أن تطفئ النار في صدورهن بقدر محاسبة القتلة، مشيرة إلى أنها ترغب في معاقبة من أطلق الرصاص على ابنها.
تضيف أنّها تنتظر المحاسبة ولا شيء غير المحاسبة، وذلك من خلال القانون الذي يجب أن يطاول كل من قتل الشهداء وأطلق الرصاص على المدنيين، مشيرة إلى أن غالبية الحكومات المتعاقبة تجاهلت ملف شهداء وجرحى الثورة، بل إن البعض استعمله كورقة إنتخابية وفي إطار المزايدات السياسية، وظلت غالبية الوعود مجرد أكاذيب ومحاولات لاغلاق هذا الملف.
من جهتها، تعرب منية خالدي، وهي أم الشهيد رامي العابد (تتحدّر من محافظة قبلي)، الذي استشهد في 6 فبراير/ شباط عام 2011، عن أملها في رد الاعتبار لأم الشهيد، مبينة أن من المسؤولين الجهويين من رفض مقابلتها لأنها أم شهيد وأصر على عدم لقائها. تضيف خلال حديثها لـ "العربي الجديد" أن "أم الشهيد تهان. ولولا دماء الشهداء وأبناء الثورة لما جلس أي مسؤول اليوم على الكرسي لينعم بالسلطة"، مشيرة إلى أن "قاتل ابنها يعمل ويحصل على الترقيات في عمله وابنها في التراب، وهذا أكبر ظلم للأمهات. أي عدالة هذه وأي محاسبة؟".
وتلفت خالدي إلى أن "أهم مطلب بالنسبة لها هو المحاسبة وجبر الضرر المعنوي. لكن للأسف، غالبية ما قدم للعائلات مجرد وعود زائفة والبقية أكاذيب. كل رئيس يعد الأمهات بفتح الملف والعمل عليه. لكن للأسف، فإن غالبية التصريحات ظلت مجرد كلام يأتي عادة بعد إحتجاجات أو وقفات غاضبة لعائلات شهداء وجرحى الثورة لإخماد صوتهم". تضيف أنها حاولت لقاء محافظ قبلي من أجل الحصول على دفتر علاج مجاني بعد مرض زوجها وإصابته بجلطة دماغية، لكنه رفض لقاءها، مشيرة إلى أن جلوسه على ذلك الكرسي كان بتضحيات ودماء الشهداء. وطالبت بفتح ملف شهداء وجرحى الثورة لكي ترتاح الأمهات وتهدأن بعد كل هذه السنوات.
من جهته، يرى والد الشهيد بيرم المستوري محمد، أن "المطالب نفسها تتجدد؛ فلا القضايا المرفوعة أغلقت ولا تمكن أهالي الضحايا من رؤية قتلة أبنائهم يحاسبون، مضيفاً أنهم لا يريدون تعويضات، ولا أي شيء آخر ستكون له قيمة غير كشف الحقيقة". ويؤكد أن العديد من السياسيين "تاجروا بالملف، ما جعله محلّ مزايدات كغيره من الملفات"، مبيناً أنه "خلال 11 عاما، ظلوا يركضون من جلسة إلى أخرى ومن محكمة إلى أخرى. لكن المسار طويل ومرهق والنتيجة الوحيدة التي تحصلوا عليها هي صدور قائمة أولية في الجريدة الرسمية وكانت بعد نضالات واحتجاجات".
ويؤكد محمد أنه فقد ابنه في سن 18عاماً، وكان متميزاً في دراسته، وكثيراً ما يحرز المراتب الأولى. لكن خلال أيام الثورة، أصابته رصاصة واخترقت كتفه ثم قلبه.
من جهته، يقول جريح الثورة عبد العزيز (30 عاماً)، ويتحدر من توزر جنوب تونس، إن مخاض الثورة لا يزال مستمراً. وحتى اليوم يطالبون بالعلاج والدواء والذي لا يجدونه في مناسبات كثيرة، ثم يتعين عليهم الانتظار مع بقية المرضى في المستشفيات ليحصلوا على دورهم. ويؤكد أن جائحة كوفيد-19 فاقمت المعاناة، وغالبية جهود الأطباء والممرضين تركزت على مقاومة الوباء. وبالتالي، وجدوا صعوبات حتى في العثور على الأدوية والعلاج.
من جهته، يرى عبد العزيز، الذي أصبب بشظايا رصاص بعد مقتل عدد من المتظاهرين على مقربة منه، أنه لا بد من نشر القائمة الرسمية التي تلقوا وعوداً بنشرها، وهي أول خطوة للاعتراف بالجرحى وبالشهداء. ويؤكد أن غالبية الحكومات تتجاهلهم، ولا يتذكرهم غير أبناء منطقتهم وخصوصاً في ذكرى الثورة، وفي هذا لمسة وفاء لهم، مشيراً إلى أنه يسعى إلى العيش وكسب قوته.
ويقول رئيس جمعية "لن ننساكم" وشقيق الشهيد عبد القادر المكي (شهيد معتمدية دقاش)، علي المكي، إن الخطوات البسيطة التي تحققت كانت نتيجة ضغط ونضال العائلات. ولم تسع أي حكومة من تلقاء نفسها إلى الاهتمام بالملف، وهناك من دخل في إضراب جوع للحصول على علاج، مؤكداً أن القائمة التي صدرت لا تخلو من إقصاء للجرحى وشهداء
الثورة، وفي ذلك ظلم لكثيرين. ويؤكد أن القائمة المنصفة، وبشهادة كثيرين، هي تلك التي أعدتها لجنة تقصي الحقائق عام 2011. يضيف أنهم راسلوا رئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية لإصلاح القائمة، لكن الوضع الحالي، وخصوصاً بعد 25 يوليو/ تموز، غامض، ولا أحد يهتم بملف الجرحى والشهداء. ويؤكد أن "أكثر ما يقلق العائلات هو التجاهل. للأسف، حتى مسار العدالة الانتقالية بطيء".