أسماء كثيرة جرى تداولها في المدة الأخيرة، في المناطق التي يسيطر عليها النظام في سورية، كانت ضحية لجرائم أو ارتبطت بها، ما يؤشر إلى تفاقم الانهيار القيمي مدفوعاً بالفقر وممارسات النظام
ياسر الصعب، اسم لمواطن سوري عادي بات معروفاً بمجزرة ارتكبها مجرمان بحق عائلته أمام عينيه، إذ قتلا زوجته وأبناءه الثلاثة، وكانت السرقة هدف الجريمة. هو ليس الاسم الوحيد في معمعة الجرائم التي تهز مناطق النظام السوري في الفترة الأخيرة، ومن الأسماء الأخرى بتول كردي المرأة الحامل التي قُتلت مع ولديها وجدتهما، ولمى اليوسف التي قتلها شقيقها علي، الضابط في قوات النظام بمدينة طرطوس بسبب خلاف على الميراث، وكذلك ريما حرب التي قتلها ابن أختها شاهين بطريقة بشعة، مع شريكين، من أجل المال.
بشكل أقل مما يجري تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، تفصح المصادر الرسمية السورية عن جرائم تمّ توثيقها من خلال شكاوى أو تدخل مباشر، إذ سجلت وزارة الداخلية جرائم بدافع السرقة خلال شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين هي الأعلى من بين الجرائم الأخرى بمجموع قدره 56 جريمة وهناك جرائم ما زالت مجهولة الدوافع كجريمة قتل أستاذ الرياضيات غدير سلام وبناته الثلاث في طرطوس.
تضاف إلى تلك الجرائم حالات انتحار وازدياد نسبة التسول والدعارة وتعاطي المخدرات وترويجها، وصولاً إلى جرائم أكثر خصوصية كإقدام امرأة في مدينة جبلة على بيع طفلها حديث الولادة مقابل مبلغ 50 ألف ليرة سورية (نحو 71 دولاراً بالسعر الرسمي) بحسب الوزارة نفسها. بدورها، وثقت منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" ما لا يقل عن 43 حالة تخلٍّ عن أطفال حديثي الولادة في محافظات سورية مختلفة، في الفترة ما بين النصف الثاني من عام 2019 و20 يوليو/تموز الماضي. من جهته، أعلن رئيس الطبابة الشرعية التابعة للنظام في سورية، زاهر حجو، في تصريح لصحيفة الوطن الموالية أنّ عدد حالات الانتحار وصل إلى 87 في النصف الأول من عام 2020، و27 منها لقاصرين دون 18 عاماً.
ترتبط هذه الوقائع في معظمها بالأوضاع المعيشية، الناشئة عن الأزمات الاقتصادية الخانقة، التي تؤدي إلى ما وصفها الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة "دمشق" شفيق عربش، بحسب وسائل إعلام محلية، بـ"نتائج سلبية في الجوانب كافة" محذراً من أيام قاتمة ستنعكس سلباً على الأجيال الطالعة. من جهته، يعيد أستاذ علم الاجتماع في جامعة "دمشق" طلال عبد المعطي مصطفى، ازدياد معدلات الجريمة في الأشهر الأخيرة إلى عدة أسباب من أبرزها تفكك الروابط الاجتماعية والأسرية، بفعل الضغوط المعيشية التي تعرضت لها الأسرة السورية أثناء الحرب، وغياب المؤسسات القانونية التي من المفترض أن تقوم بحماية المواطنين، بالإضافة إلى تأثير جائحة كورونا على الأوضاع المعيشية، وما تبعها من انهيار في قيمة الليرة السورية. ويقول مصطفى لـ"العربي الجديد" إنّ انتشار السلاح العشوائي بين عناصر المليشيات الموالية للنظام، وأشخاص تربطهم علاقات وطيدة مع ضباط في النظام، ساهم بشكل كبير في انتشار الجريمة. يضيف أنّ النظام الذي دمر العديد من المدن السورية وهجّر نصف سكانها وقتل نحو مليون سوري واعتقل مئات الآلاف واغتصب الآلاف من النساء لن يكترث بمعاناة الشعب السوري من ارتفاع معدل الجريمة، بل سيستخدمها للترويج بأنّ هذا الارتفاع هو نتيجة تردي الوضع الاقتصادي جراء الحصار والإرهاب.
وتزداد أوضاع الأهالي صعوبة يوماً بعد يوم، وتتجاوز حدتها ما عاشه السوريون في المناطق التي يسيطر عليها النظام طوال سنوات الحرب التسع الماضية، بسبب عدم تمكن الجهات الحكومية من الانتقال من اقتصاديات الحرب والعنف إلى اقتصاديات منتجة، ومن تحويل الموارد من عسكرية إلى إنتاجية، وفشل النظام في استعادة رأس المال البشري الذي بددته الحرب في الهجرة والنزوح، يضاف إليه عدد القتلى والإصابات وعشرات آلاف المعتقلين. وفي ظل هذه الأوضاع، بقيت مؤسسات النظام مرتكزة على شبكات المافيا التابعة لبعض الجهات من قبيل أثرياء الحرب، في وقت توقفت فيه عجلة الإنتاج وتدفق رأس المال، ليضاف إلى هذه الأزمات عامل جائحة كورونا وتراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي، مع استمرار الحلول الأمنية والعسكرية للقضايا الاقتصادية، والضغط على الأهالي لتحمل الواقع المعيشي.
ويرى ثامر قرقوط، الصحافي المتخصص بالشأن الاقتصادي، في حديث إلى "العربي الجديد"، أنّ تزايد الجريمة، وتفكك عرى المجتمع وتشويه ملامحه، وازدياد نسبة الفقر، نتيجة حتمية لممارسات النظام، وحالات الإقصاء التي تعمدها، وعدم تطبيقه القانون. وإذا كان الاقتصاد قادراً على إصلاح ما أفسدته الحكومات المتعاقبة، فلا بد من حامل سياسي يضمن تنفيذ خطة إنقاذ شاملة للبلاد، تعيد السوريين إلى الحياة الطبيعية. ويشير قرقوط إلى أنّ حكومات النظام المتعاقبة عملت بشكل ممنهج وفق سياسة توسيع مروحة الفقر، مقابل ازدياد ثراء شخصيات طفت على السطح بسبب تزاوج المال السياسي، ويقول: "أسست هذه العلاقة بين تلك الشخصيات والمال السياسي شبكات للفساد فغدت لديها أصول في ممارسة كلّ أنواع الفساد والإفساد والتسلط والاستحواذ وتجاوز القوانين وخرق الأنظمة، وأصبحت لها معاقل حصينة، ودور أساسي في البلاد، بل لا نجافي الصواب بقولنا إنّها صاحبة القرار في سورية حالياً".
ولم يطرأ أي تحسن على رواتب الموظفين التي تعادل 50 ألف ليرة (نحو 71 دولاراً بالسعر الرسمي)، في وقت تحدثت تقديرات قريبة من النظام وتقارير صحفية أن تكاليف المعيشة لأسرة المؤلفة من 5 أشخاص في دمشق تصل إلى 430 ألف ليرة (610 دولارات بالسعر الرسمي) شهرياً كما جاء في دراسة لصحيفة "قاسيون" المحلية.
وتزداد أوضاع الأهالي سوءاً، إذ تجاوزت نسبة الفقراء نحو 90 في المائة من سكان سورية، وهم الأشخاص الذين يعيشون بأقل من دولارين في اليوم الواحد، وفق ما نقلته وكالة "رويترز" عن ممثلة منظمة الصحة العالمية في سورية، أكجيمال ماجتيموفا، في يونيو/حزيران الماضي. كذلك، قدرت جيسيكا لوسون، من برنامج الأغذية العالمي لوكالة "فرانس برس" ارتفاع سعر السلة الغذائية التي يعتمدها برنامج الأغذية العالمي بنسبة 107 في المائة، بينما قالت إليزابيث بايرز، المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي، إنّ عدد من يفتقرون إلى المواد الغذائية الأساسية ارتفع بواقع 1.4 مليون شخص في غضون الأشهر الستة الماضية.
وعلى خلفية هذه الأوضاع المعيشية، برزت في المدة الأخيرة تحذيرات من محللين موالين للنظام من مخاطر كبيرة على المجتمع. ومن بين هؤلاء المحلل الاقتصادي، عمار يوسف، الذي نقلت عنه صحيفة "تشرين" التابعة للنظام قوله إنّ "من لديه مدخرات ستكون قد نفدت، وستأتي علينا مرحلة جوع مخيفة، ولن يهمه حينذاك إن ارتفعت الأسعار أو انخفضت". ويقول الكاتب والمحلل السياسي صبحي دسوقي، لـ"العربي الجديد" إنّ النظام السوري هو في الأساس قائم على الفساد، وعلى حماية منظومة الفساد، ومن بين الأجهزة الأكثر فساداً الأمن الجنائي لارتباطه بتجارة المخدرات والدعارة والجريمة عموماً. يتابع أنّ ازدياد نسبة الجريمة هو في مصلحة النظام ولن يمنع وقوعها، كما لا يمكن له أن يضبطها لأنّها جزء من تركيبته، بل سيوسع دائرة حماية الفاسدين.
وإن كانت الجريمة ليست بغريبة عن المجتمعات، لكنّ وقوعها في ظروف غير طبيعية متأزمة من شأنه أن يسهم في منحها أبعاداً أكثر خطورة، خصوصاً أنّ انتشار الجريمة بأشكالها المختلفة، في أوضاع متردية يعني مؤشراً مرتفعاً على انهيار المنظومة القيمية المجتمعية، ما يدفع الأفراد إلى تبنّي سلوكيات غير أخلاقية لتلبية احتياجاتهم. وتسود مخاوف عميقة وجدية لدى الأهالي من أن يصبح مسلسل الجرائم أمراً اعتيادياً، لا سيما أنّها ترتبط بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد تأزماً ما يزيد من تصدع في بنية المجتمع السوري، خصوصاً أنّ الفقر مستمر في هبوط شرائح أخرى إلى ما تحت خطه، ونظام عاجز إلاّ من البقاء جالساً على كرسي فساد وبحر من دماء السوريين، ولا حلّ لديه سوى القبضة الأمنية في وجه الملايين ممن أفقرتهم آلته العسكرية، بالإضافة إلى الفاسدين الذين ربطهم به مع ما يعنيه ذلك من نشر ثقافة الانحلال القيمي والأخلاقي ليصبح قاعدة، فيما الاستقامة والقيم التي تربى عليها السوريون وعاشوها يعمل على جعلها استثنائية مع استمراره في تفتيت المجتمع وتشظية المكونات والأسر في حقبة يمنع الناس من أبسط مقومات حياتهم مستمراً بكذبه عليهم تارة، وملوّحاً بعصاه تارة أخرى.